فكر وثقافة

درب العطور الشرقية: نفحاتٌ من اليمن

يمن مونيتور/ميساء العاقل/ مجلة المدنية

دائماً ما تشير كتب العطور إلى تاريخ العطور كفن نشأ في الغرب، وهذا صحيح من ناحية أن الغرب أنشأ سوقاً عالميّة للعطور لم يكن موجوداً من قبل. وكما هو الحال غالباً، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، أو في هذه الحالة، الجهات المسيطرة على السّوق. من السهل تصديق أن مفهوم العطر، مع أسمائه الفرنسيّة الرومانسيّة وصور العارضات الشقراوات النحيلات، هو، بهذا المعنى، غربي بصورة بحتة. مع ذلك، تعود جذور عالم الروائح العطرية وصناعتها، مثل أي فرع آخر من فروع الفن، إلى أكثر من ثقافة.

كان المصريون القدماء مهووسين بعطورهم لدرجة أنهم «دفنوها» مع جثامينهم. وكان لدى النُّبلاء الفُرس عطور مميّزة صُنعت خصيصاً لهم، وقد وصل بهم الأمر إلى حد إعدام من كان يتجرّأ على استخدام نفس رائحة عطر الملك. أما الرومان، فلم يعرف عنهم انخراطهم وولعهم بفن العطور فحسب، بل أيضاً استهلاكهم لما يقارب الـ 2,800 طن من اللُّبَّان المستورد و550 طن من مادة المُرَ سنوياً[1]. لقد كانوا يستخدمون العطور للنظافة الشخصية وكعقاقير مثيرة للشهوة الجنسيّة، وأيضاً لتضميخ المعابد، وتحديداً معبد «أفروديت»، إلهة الحب والخصوبة.

وإذا كانت أمور مثل الازدهار الاقتصادي والجمال والسّحر قد ارتبطت بفن صناعة العطور، فإن من الصعوبة بمكان تخيّل دولة صغيرة وفقيرة مزقتها الحرب وتقع في الركن الجنوبي من شبه الجزيرة العربية يكون بمقدورها لعب دور في هذا المجال. غير أن اليمن المشهورة بمينائها وقهوتها قد أضافت الكثير إلى ما نعيشه اليوم في حقل صناعة العطور الحديثة. عبر طُرُقها ومعابرها التاريخية التي ساعدت في استيراد المواد الأجنبية وغير المألوفة، وبواسطة الأطياف العطريّة التي كانت تُستخدَم وتُصَدَّر، ساهمت اليمن، عن قصد وغير قصد، في تكوين وتطوّر فن العطور، وكان لها تأثير لا يمكن إنكاره على الأذواق العطرية الشرقية.

اللُّبَّان اليمني ومادة المرّ

ترتبط أولى الاستخدامات المعروفة للروائح  والأرائج بالمعابد والأضرحة الدينية، حيث كانت تُحرَقُ الأخشاب العطرية والأحجار الصمغيّة في المناسبات الخاصة وخلال الصلوات الليلية. كان اللُّبَّان (أو زيت اللُّبَّان)، وهو أحد الراتنجات العطرية الرئيسية التي تُحرَقُ في المعابد، يستورد من بلدين رئيسيين هما الصومال واليمن. في اليمن، تأتي أفضل أنواع اللُّبَّان من جزيرة سُقُطرى الشهيرة، حيث نجد بعضاً من أغلى أنواع اللُّبَّان العطرية ذات الرائحة الفوّاحة والشذيّة. لا يفوحُ عطرُ لُبّان سُقُطرى بتأنٍّ عند حرقه فحسب، بل إنه يمتلك، أيضاً، حدّةً شديدة التميّز، مما يجعله مثالياً لخلطه مع روائح أخرى عندما يكون زيتاً. يُعَدُّ هذا أندر أنواع اللبان وأنقاها، وله أعلى مكانة بين جميع أنواع اللُّبَّان؛ لذا فهو مخصّص للملوك والملكات فقط.

يحتوي هذا النوع من اللبان على أعلى محتوى من مكوّن «ألفا-پينين». طيفُ عطريٌّ آخر غالباً ما تستخدمه المعابد التوحيدية كما الشّركيّة هو المُرّ، أو ما يسمى بالمُرّ العربي. وقد ظل المُرّ رفيقًا متمّماً للُّبَّان. وكرفيقه، ارتبط المُرّ أيضاً بالأديان والعلاجات العطرية والأغراض ذات الصلة بزيادة الرغبة الجنسية. تأتي مفردة «مُرّ» باللغة العربية من المرارة واللّذاعة؛ لذا، فإن أصل الكلمة هو أحد المؤشرات الرئيسية لأصلها، الشّرق الأوسط. تمامًا مثل اللُّبَّان، يعتبر المُرّ عنصراً خشبياً دافئاً عطرياً، وله خصائص علاجية عندما  يتم استخراجه من فصيلة شجرة «العَصرة». كاللُّبَّان أيضاً، نجد المُرّ في بلدان القرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية. في اليمن، يمكن العثور على المُرّ في المناطق الجنوبية مثل شبوة وأبين وحضرموت ووادي تهامة. يشتهر المُرّ اليمني، بخلاف المُرّ الموجود في مناطق أخرى، بالمرارة اللاذعة، وهو الأمر الذي يجعله مكوّنا جوهريا وأساسيا في العطور الحديثة. في اليمن، وحتى يومنا هذا، لا يزال تقليد العائلات اليمنية يتمثّل في حرق اللُّبَّان والمُرّ مع بداية العام الهجري، أو لدَرء العين الشريرة (غالباً أثناء تلاوة آياتٍ من القرآن) كما يستخدم أثناء النفاس.

الروائح الحيوانية والخشببيّة

على عكس استخدام الروائح الخشبية والبلسميّة لأغراض دينية، كان للروائح الحيوانية غرض بدائي بحت، ألا وهو الإنجاب وتحفيز الرغبة. تُضفي الروائح الحيوانية طيفاً عطريّاً بدائياً وفجّاً إلى صناعة العطور تشبه إلى حد بعيد رائحة الجماع. واحد من أشهر مصادر الأطياف الحيوانية هو قط الزّباد. تعيش في اليمن سلالة نادرة من قط الزباد في منطقة واحدة فقط هي جزيرة سُقُطرى. يُنتج قط الزباد إفرازاً شديد الرائحة لتحديد منطقته. بعد تخفيفه لبعض الوقت، تتحوّل رائحة إفراز قط الزباد من كريهة وحادّة إلى عذبة سائغة تميل إلى أريج المسك الحيواني. بطبيعة الحال، بسبب العدد المحدود لقطط الزباد وصعوبة التقاط المسك واستخراجه، فهو نادر للغاية وباهظ الثّمن. لا توجد مصادر واضحة تماماً تحدد زمن بداية تجارة الزباد بالضبط في اليمن، لكنها على الأرجح بدأت في وقت ما خلال القرنين الماضيين، أي مع ازدهار التجارة بين الشرق والغرب، مع مرور السفن عبر «ميناء المخا». خاصة أن اليمنيين قد بدأوا بالفعل في استخدام هذا النوع من القطط لاستخراج ما يسمّونه ببساطة «الزُّباد»، وهو معجون يمني تقليدي فعّال لا يزال يُستخدَم حتى يومنا هذا في شكله الخام كمنشط جنسي وكمنتج للعناية بالشعر، كما لتنعيم وتضميخ الحواجب والشوارب واللحية، بالإضافة إلى استخدامه كعلاج لتساقط الشعر وللعديد من الاستخدامات الشعبية والفولكلورية الأخرى. تجدر الإشارة إلى أنه مجال في صناعة العطور الحديثة، يتم حالياً تصنيع الزُّباد صناعياً بهدف عدم تعريض هذا الحيوان للخطر.

 

أصبح خشب العود، أو العود، من أكثر الأطياف العطريّة المرغوبة في عالم العطور الحديث. مثل الزباد، لم يكن من المرجح أن خشب العود قد تم تصديره من اليمن سابقاً، على الرغم من استخدامه من قبل اليمنيين لعدة قرون. يبقى العود الكمبودي هو أنقى وأغلى أنواع العود؛ قبل الصراع، كان اليمن يشكّل أحد مصادر العود العالي الجودة، خاصةً في العطور الشرقية. وغنيّ عن القول أن العود كان في اليمن – مثل الكثير من البلدان الأخرى في المنطقة – جزءاً لا يتجزأ من كل المناسبات، من تجمعات أيام الجمعة إلى حفلات الزفاف والاحتفالات الدينية. ومن بين جميع الأطياف العطريّة المذكورة أعلاه، فإن العود فقط هو الذي شق طريقه إلى الأجيال اليمنية الحالية، مع أنواعٍ قد يصل سعرها إلى أكثر من 500 دولار أميركي للكيلو الواحد.

“العود هو الڤانيليا الجديدة!”

من غير المعروف متى تحديداً توسّع استخدام هذه الأطياف العطريّة لتتخطّى الأغراض الدينية والطبية وتدخل إلى ذائقتنا العطرية الحديثة. غير أنها لا بد أن تكون قد ظهرت مع ثورة الأذواق الشاملة التي حدثت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ أي عندما ألقَت صناعة الأزياء الغربيّة أعينها على الشرق بحثاً عن الإلهام والغرابة[2]. كان العطر يمنح مغامرة لأولئك الذين لا يستطيعون السفر، ونفحات من الشمس والدفء إلى الطقس الأوروبي البارد والكئيب والموحش في كثير من الأحيان. استوردت الصناعات الحديثة أطيافاً عطريّة من اليمن وبلدانٍ شرقية أخرى، بالإضافة إلى العديد من الطقوس والأذواق العطرية التي بدأت تتسرب إلى عالم الموضة الحديثة. تحمل العطور المشرقيّة، أو ما يسمى أكثر شيوعًا بالعطور «الشرقيّة»، أطيافاً عطريّة تشبه العطور الموجودة في الشرق، مع أرائج من العود والمسك والمُرّ واللُّبَّان، وهي تُعدُّ اليوم من أغلى العطور وأكثرها مبيعاً بين عطور العالم.

ثمة عبارة شائعة تقول إن «العود هو الڤانيليا الجديدة»، مما يدل على الطريقة التي اخترقت بها الروائح الشرقية سوق العطور والذّوق العام. تستخدم بعض العطور الأغلى والأكثر شهرة اليوم الأطياف العطريّة المذكورة في هذا المقال. «ديور سوڤاج» (الحديث كما الأصلي)، «توم فورد، توسكان ليذر»، «شانيل كوكو نوار»، «إيڤ سان لوران أوپيوم» (أحد العطور الأولى التي اشتهرت باستخدام المُرّ كطيفٍ عطريّ رئيسي) و«أموج خوبيلاسيون»، جميعها عطور تستخدم اللُّبَّان كأطيافٍ رئيسية، مع مزجه بعناصر أخرى. أمّا بالنسبة للعود والزُّباد، فأنا متأكدة من أن خزاناتكم مليئة بعطور تحتوي على هذا أو ذاك. من أشهر هذه العطور هو عطر «غيرلان شاليمار»: (ملك العطور الكلاسية)، «شانيل كوك» و«شانيل ن5» (الأصلي)، و«كارتييه موست دو كارتييه» (طيف الزُّباد حاد وحيواني جداً في هذا العطر، وهو فقط لصاحبات القلب القوي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى