أخبار محليةاخترنا لكممجتمع

بائع يمني متجول يُضرِم النيران في جسده: قراءة سياسية في الرسالة

يمن مونيتور/ القدس العربي/ من أحمد الأغبري

ما شهدته مدينة عدن وتحديدًا مديرية الشيخ عثمان مساء الثلاثاء ليس حدثًا بسيطًا. فأن يُقدِم شخص على إضرام النيران في جسده فيعني وصول هذا المواطن إلى أقصى محطات القهر واليأس والرفض، لدرجة هانت عليه روحه؛ بل لم يجد من لغة أو وسيلة ليعبر عن احتجاجه إزاء إهدار حقوقه، ويرد على مَن استبد به سوى أن يضع حياته بإرادته بين ألسنة النيران؛ لعل الموت حرقا يكون قادراً على إيصال رسالته والتعبير عن مدى قهره وشعوره بالخذلان وفقدان الثقة.

كأن حادثة بوعزيزي التونسي تتكرر بتفاصيلها بعد 14 سنة، لكن هذه المرة في عدن، في زمان ومكان مختلفين.

مؤسف ألا تصل كلمة المواطن إلا بعد أن يمارس بحق نفسه هذا الفعل شديد الوطأة؛ فالحدث صادم، وكم هو مؤلم لفاعله، إذ وضع روحه بين يدي الموت مستعينًا بالنيران لعلها تحمل رسالته، وتعبّر عما وصل إليه من شعور بالقهر؛ جراء ما تعرض له من إذلال من قبل مأمور البلدية، الذي صادر بضاعته؛ لرفضه دفع ما فُرض عليه من جبايات، وفق مصادر إعلامية محلية، ولأن تلك البضاعة هي مصدر دخله الوحيد؛ وبعد محاولات عديدة لاستعادتها رفضت البلدية الافراج عنها، لم يكن أمامه من خيار إلا أن يذهب للاحتجاج أمام مبنى السلطة المحلية للمديرية، لكن خيار الاحتجاج كان قاسيًا، لقد صب البنزين على جسده، وبكل هدوء أشعل النيران، وكان مشهدًا لم يعهده المجتمع هناك! إذ هرع الناس ذاهلين لإنقاذه من بين مخالب النار، وتمكنوا من إسعافه لمستشفى أطباء بلا حدود، حيث يتلقى العناية الطبية في ظروف صحية حرجة.

وتناقلت منصات التواصل الاجتماعي صورًا وفيديوهات مؤلمة للحدث في سياق الاستنكار المجتمعي، الذي أدان تصرف بلدية الشيخ عثمان. ونتيجة لذلك تظاهر عدد من المواطنين والتجار، الأربعاء، أمام المجلس المحلي للمديرية احتجاجًا على ما اعتبروه تصرفات لا مسؤولة للبلدية وتجاوز القوانين وتعسفات مدير المديرية.

إزاء ذلك أصدر محافظ عدن، المحسوب على المجلس الانتقالي (الانفصاليّ) أحمد لملس، قرارا بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة مدير أمن المحافظة، كما أعلن تكفله بعلاج البائع المتجول. وحسب مصادر محلية فإن مدير مديرية الشيخ عثمان، وسام معاوية، أوقف نفسه عن العمل لحين الانتهاء من التحقيق في الحادثة.

السؤال المهم الآن: ماذا يعني أن يصل مواطن إلى حد إضرام النيران في جسده؟ وهل تحتاج الدولة إلى أن تكون هذه الوسيلة هي المناسبة للتعبير عن الاحتجاج والرفض؟ وقبل ذلك كله: هل سيكون لهذا الفعل تأثيره في مسار علاقة الدولة بالمواطن وقبل ذلك علاقتها بالقانون والعدالة؟

يمنيون يزورون الشاطئ لتجنب انقطاع التيار الكهربائي وسط حرارة الصيف الحارقة في مدينة عدن الساحلية الجنوبية ، اليمن ، في 25 مايو 2023 (شينخوا / مراد عبده)

إضرام النيران…شرارة الغليان

عندما يصل المواطن إلى إضرام النيران في جسده فيعني أن هذا المواطن فقد كل إمكانات بقائه حيًا كريمًا، واستنفد وسائله لإنقاذ ما تبقى من سُبل العيش؛ حتى هانت عليه حياته مع وصوله إلى طريق مسدود في علاقته باستمراره على قيد الحياة في ظل سلطة لا تأبه بما تبقى له من وسائل عيش بسيط، فهذا البائع كغالبية من اليمنيين يعيش على الكفاف جراء تداعيات الحرب، وحرصًا منه على الحصول على أقل القليل للحفاظ على كرامة عائلته معيشيًا استعان بالعمل بائعًا متجولا، ومثل هؤلاء فقراء مُعدِمين، وعادة لا يملكون رأس مال؛ إذ يأخذون البضاعة من التجار دينًا، ويتجولون بها بيعًا بفارق ربح بسيط، ومن ثم يسددون التجار لاحقًا، مستعينين بفارق الربح في توفير أقل القليل من متطلبات المعيشة؛ وبالتالي فإن إقدام البلدية على فرض جبايات يجعله من الطبيعي أن يرفض تسليمها؛ لأن دخله محدود جدًا، ولا يمكنه دفعها في الأصل، لكن إصرار البلدية على مصادرة بضاعته قد حشره في زاوية ضيقة، كما أن رفضها المتكرر لتوسلاته لإعادتها أذلته وقهرته؛ حتى صار عاجزًا إمام التزامين: الأول سداد مديونية مالك البضاعة، والثاني استمرار الانفاق على عائلته. ومن الطبيعي أن يصل إلى مرحلة التفكير بالانتحار بعد أن ضاقت به السُبل؛ إذ حمل فوق ظهره حملين: قهر الرجال وغلبة الدين، ومعهما حرمانه من مصدر الدخل مع كرامة مهدرة، وقبل ذلك وبعده فقدانه الأمل واليأس ممن يمكن أن ينصفه، بما فيه ذلك وسائل الإعلام؛ فتوصل إلى طريقة للخلاص، لكنه خلاص أراد منه أن يحمل رسالته، ويقول كلمته، ويعبّر عن رفضه؛ فلم يكون سوى الموت، وكان خيار الحرق هو الخيار الذي انتهى إليه. ومثل هذا يمثل إدانة لكل شيء.

عما يعنيه هذا الفعل يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي، عبدالكريم غانم: «يحمل إضرام النار في الجسد دلالات سياسية، تتمثل في وصول الفساد والاستبداد مستويات يصعب تحملها، فهو أشبه بصرخة عارمة للخروج عن الصمت والدفاع عن الكرامة المهدورة، فحدث إضرام مواطن عربي النار في جسده أواخر 2010 وضع دول المنطقة على فوهة بركان من الثورات، صار معها إضرام النار في الجسد شكلا من أشكال الاحتجاج في البلدان العربية، ونوعًا من الفضح لحقيقة النظام القائم وإمعانه في قمع الحريات ومصادرة سبل العيش، فإقدام الشخص على إضرام النار في جسده يُعدّ أكثر أشكال الانتحار ألمًا، تعبيرًا عن درجة اليأس التي بلغها المواطن وانعدام الثقة في جدارة مؤسساته وفقدان الأمل في الحياة الكريمة».

ويضيف غانم لـ «القدس العربي»: «على الرغم من كون هذا الحدث فعلا فرديا إلا أنه مؤشر على ارتفاع نسب البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وبلوغ حالات الفقر إلى درجة مهولة يغيب معها الأمل في تحقيق أي قدر من الأمن الغذائي وتتلاشى فرص العيش جراء تفشي الفساد، وما يترتب عليه من ارتفاع نطاق الواجبات المشروعة وغير المشروعة في مقابل تنصل السلطات من أداء أبسط الحقوق الأساسية للمواطن وتغول الاستبداد في مفاصل الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية، فالمعطيات المتمثلة في حلول الفساد محل النظام وتضاؤل فرص العيش، تجعل المواطن يعيش مأساة مستمرة يتساوى عندها البقاء أو الموت بطريقة إضرام النار في الجسد، بما فيها من قسوة، تعبيرًا عن فقدان المواطن الثقة في مؤسسات بلده السياسية والقانونية والاقتصادية، التي تحاول أن تفرض عليه نمطًا لا إنسانيًا، يُراد منه اكراهه على القبول بالدونية التي يرفضها، معبرا عن احتجاجه ضدها على ذلك النحو من الاشهار لمأساته والتحدي لجلاده».

من أمطار سابقة على عدن – فيسبوك

الانصاف

هل بالضرورة أن تكون هذه هي الوسيلة المناسبة للتعبير عن الاحتجاج والقهر؟ هي بالطبع أقسى وسائل التعبير عن الاحتجاج والقهر، ولا يصل إليها المواطن إلا بعد أن ضاقت به الحال وانكسرت أمامه الذات، وتحطمت معه الآمال، وتلاشت الثقة بما يمكن أن تقوم به الدولة تحت ثنائية العدالة والحماية في مواجهة ثنائية الفساد والاستبداد. وبالتالي لا يبالي بالمآل الذي ذهب إليه نتيجة التصرف الحكومي اللامسؤول تجاه مصدر دخله الوحيد والبسيط جدا. أن يصل المواطن إلى أن يفعل ذلك بحق نفسه فهو يعني أن الوضع وصل إلى حال فقد فيها كل إمكانات الاحتجاج والتعبير والرفض المألوفة، ولم يعد أمامه ما يمكن اللجوء إليه لإنصافه. وهي رسالة يفترض أن تتلقفها الدولة لاستعادة سلطة القانون وإعادة الاعتبار لقيم النزاهة وحقوق الإنسان، وقبل ذلك المجتمع الذي يجب أن ينصت جيدًا للرسالة.

يقول عبدالكريم غانم: «ليس من مصلحة الدولة أن يتم التعبير عن الاحتجاج على هذا النحو من القسوة بما يحمله من دلالات فقدان الأمل فيها، إذ من المفترض أن تترك الدولة لمواطنيها هامشًا للاحتجاج العفوي، الذي يتضمن إيصال رسائل صادقة عن معاناتهم، تصمت عن نقلها وسائل الإعلام المرتهنة باتجاهات مموليها، وخدمة مصالحهم، وقلما تكترث بمعاناة المواطن ومآسيه».

هنا يكون السؤال: هل سيكون لهذا الفعل تأثيره في مسار علاقة الدولة بالمواطن؟

يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي: «في ظل تضاؤل فاعلية الإعلام الجماهيري لمصلحة إعلام سلطات الأمر الواقع لا يُتوقع أن يكون لحادث إضرام المواطن النار في جسده كبير أثر في تغيير مسار علاقة الدولة بالمواطن، فهذا الحدث ليس خطيرًا في حد ذاته بل بطبيعة التأويل الذي يمكن أن يضفيه عليه الإعلام الجماهيري أو المعارض، ليجعل منه تضحية بالذات من أجل خلق فرص حياة كريمة للمجتمع، الأمر الذي يستوجب خروج الجماهير للاحتجاج، بما يعنيه من تكثيف دلالات الحرق، فلا يقف تأثير ألسنة اللهب على التهام جسد المواطن المقهور بل يتجاوزها إلى إشعال فتيل احتجاجات لا تهدأ قبل أن تغير علاقة الدولة بالمواطن حتى لا يصل الأمر إلى حد إسقاط النظام القائم على وقع الغليان الشعبي».

قبل الانصراف نؤكد أن ذهاب البعض إلى تجاهل الحادثة والتقليل من شأنها تحت تأثير عوامل عديدة منها نظرية المؤامرة هو تأكيد للحكاية التي دفعت المواطن المقهور لاختيار المآل حرقا لعل الرسالة تصل!

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى