آراء ومواقف

في وداع عبد العزيز المقالح

د. محمد أمين الميداني

لست شاعراً أو أديباً فهل يجوز لي أن أكتب في وادع شاعر وأديب يمني كبير وهو الدكتور عبدالعزيز المقالح (رحمه الله) والذي غادرنا يوم الاثنين 28 نوفمبر 2022؟ أشعر بحرج كبير إزاء شعراء وأدباء اليمن والوطن العربي، وكل محبي ومتابعي أخبار هذا الشاعر الكبير، وأنا أخط هذه الأسطر خشية ألا أوفي هذا الشاعر والأديب العربي ولو بشكل بسيط ومتواضع حقه، ولكن لم أرد أن أفوت فرصة الحديث عنه كنوع من الوفاء لذكرى الأيام النادرة والساعات القليلة التي جمعتني به في بعض المناسبات في العاصمة اليمينة. التقيت بالراحل لأول مرة عام 1993، حين شاركت في دورة تدريبية عن حقوق الإنسان تم تنظيمها بالتعاون مع جامعة صنعاء، وكان وقتها رئيسا لهذه الجامعة، وهو منصب استمر فيه حتى عام 2001، واكتشفت بهذه المناسبة عبدالعزيز المقالح الإنسان بكل معنى الكلمة، بدماثته ولطفه وحسن معشره وتواضعه، وقد أشرف على هذه الدورة بكل اهتمام ومتابعة كونها أول دورة على حقوق الإنسان تعقد في اليمن، مما مهد لاحقاً لدورات عديدة مماثلة في عدة مدن يمنية على مدى عقود التسعينيات من القرن الفائت.

وكنت حين جمعنا مجلس واحد، أخطف إليه النظر من حين لآخر، وكانت الجامعة قد دعت المشاركين في الدورة إلى موائد الغداء والعشاء وجلسات (المقيل) التي كانت تجمع مختلف شرائح المجتمع اليمني وطبقاته، وكان الدكتور المقالح جالساً يتكلم قليلاً وينصت طويلاً وبكل انتباه لمن يتحدث معه، كان حفياً بضيوفه مهتماً بهم، ويعكس بتصرفاته الكرم اليمني المعروف.

وفوجئت بما قاله لي الدكتور المقالح في إحدى الزيارات بأنه زار مدينة ستراسبورغ في سبعينيات القرن الفائت، وحسب معلوماتي فإنه كان يتجنب ركوب الطائرة، فكيف حط به الرحال في تلك المدينة الأوروبية على ضفاف نهر الراين على بعد آلاف الكيلومترات من صنعاء؟ وأخبرني وقتها أنه انتقل إلى أوروبا عن طريق البحر، وكانت تنقلاته بين البلدان الأوروبية عن طريق القطارات، وأردت أن أتعرف على الدكتور المقالح الشاعر بعد أن تعرفت عليه كإنسان ورئيس للجامعة، فقصدت إحدى مكتبات صنعاء لأشتري ديواناً من دواوينه ولأقرأ شعره المنساب بكل رقة وخفة وشاعرية.

وتكررت زيارتي، طوال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لليمن السعيد للمشاركة بدورات تدريبية أو بتكليف بمهام من مختلف مؤسسات الأمم المتحدة، وكنت أشعر، وكل مرة وصلت فيها إلى البلد، بأنني بالفعل في بلد عربي بشعبه الذي حافظ على أصالته، ومدنه العربية بأسواقها وحاراتها ومجالسها، وكنت أتحرى الفرصة لأجتمع بالدكتور المقالح، وصادف في أثناء إحدى زياراتي وجود الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في صنعاء، وعلمت أن الشاعر المقالح قد دعاه، ولم أتردد بالذهاب إلى (المقيل) وقد دعيت إليه، كيف لا وسأكون في حضرة شاعر فلسطيني كبير، وشاعر يمني أتحفنا بأشعاره ودواوينه كما فعل ذلك محمود درويش على مدى عقود، ودخلت يومها مجلس (المقيل)، ووجدتهما بجانب بعضهما يتبادلان الأحاديث ويستمعان لمن حولهما، لكن جلستي لم تطل للأسف فقد خرجت بعد فترة قصيرة بسبب الجو المشحون بدخان السجائر في مثل هذه المجالس، ولكن الهدف تحقق وقد التقيت بهما واستمعت إليهما في جلسة مشتركة نادرة وحولهما لفيف من أهل صنعاء من أدباء وشعراء سعداء بوجودهم أيضاً في هذه الجلسة.

أما آخر مرة التقيت فيها الراحل عبدالعزيز المقالح، فكانت عام 2005، وكنت في مهمة من منظمة اليونسيف، وكان وقتها رئيساً لمركز البحوث والدراسات اليمني، واستقبلني كعادته بكل ترحاب ولطف، وتحدثنا عن نشاطات المركز وإصدارته، ورحب بنشر إحدى دراساتي في مجلة المركز، وبقيت بعدها على تواصل معه لفترة من الزمن، وعلمت بعدها بأنه كان عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق. ويجب ألا ننسى، ونحن في وداع الدكتور المقالح، التكريم الذي حظي به على مدى عقود والاهتمام به وبأعماله، وكيف تم الاحتفاء بهذه القامة الشعرية العربية المتميزة من العديد من المنتديات العربية داخل العالم العربي وخارجه، وكذلك السعي لتقديم كل دعم ومساعدة له في العديد من المناسبات، ولا ننسى كذلك بأن المكتبة الوطنية في قطر كرمته في الأسبوع الأول من نوفمبر من هذا العام. وليسمح لي القارئ الكريم أن أختم بهذه الأبيات لشاعر فريد كالدكتور المقالح الذي كان مستعداً للرحلة الأخيرة لعله يلتقي بالذين أحبهم وذهبوا:

«أنا هالكٌ حتماً

فما الداعي إلى تأجيل

موتي

جسدي يشيخُ

ومثله لغتي وصوتي

ذهبَ الذين أحبهم

وفقدتُ أسئلتي

ووقتي».

 

المصدر/ الجريدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى