كتابات خاصة

علي وإسلام همدان

استكمالاً للمقال السابق عن “جمعة رجب”، ومحاولة لتقديم الرؤية التاريخية الأدق لما يجري من جدل مؤخراً في مسألة ادعاء ارتباط جمعة رجب عند اليمنيين بدخول همدان الإسلام على يد علي ابن طالب، ذكرت في المقال السابق ما جاء في التاريخ من ارتباط لهذا اليوم بمجيء معاذ بن جبل إلى الجند، وأن ذلك ليس مؤكداً لأنه ورد في مصادر تاريخية متأخرة، وفي هذا المقال أستكمل الإجابة في موضوع بعث علي إلى اليمن وإسلام همدان على يديه لتكاثر الادعاءات الكاذبة والتدليس الذي يحمل أجندة سياسية تنافي الحقائق استغلالاً لتناقض الروايات التاريخية وتضاربها، سأكتفي بخلاصة مركزة لما بحثته في المسألة:

أولاً: لم يرد في أي مصدر حديثي أو تاريخي أو أي مصدر تراثي سواء كان من تراث السنة أو الشيعة أن علي بن أبي طالب وصل إلى اليمن في أول جمعة من رجب.

ثانياً: لم يرد في أي من الكتب التسعة للحديث بصحيحها وضعيفها، ولا في كتب السيرة الأقدم كسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد أن همدان قد أسلمت على يد علي بن أبي طالب.

وإنما جاء ذلك في وقت متأخر كما عند البيهقي المتوفي 458هجرية.

ثالثاً: جاء عند أحمد وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد أن همدان أسلمت قبل الهجرة بعام، ثم جاءت وفودها في السنة التاسعة للهجرة.

رابعاً: لم تذكر رواية البخاري أن علي جاء لليمن ليدعوهم للإسلام، ولا أن همدان أسلمت على يده، وإنما ذكرت أنه جاء على إثر خالد ليقبض الخمس؟ وهذه الرواية فيها عدة إشكالات طرحت عليها قديماً وحديثاً: فأي خمس أرسله النبي من أجله؟ والخمس يؤخذ من حرب؟ أي حرب وقعت في اليمن وعن أي فيء يتحدثون؟ ألم تقبل الوفود إلى النبي مسلمة؟ الرواية تقول أن علي أصاب من الغنائم حينما أرسل لليمن، وأخذ الجارية من الخمس، وهذه تتناقض مع الرواية المشهورة أن اليمن أسلمت برسالة ثم بوفود ولم يكن هناك فتح أو قتال!! فمن أين أتت الغنائم والسبي دون قتال؟!ولماذا يأخذ علي مباشرة من خمس الغنائم؟! أليس الأولى أن يدع تقسيمه للنبي عليه السلام؟! فإن قالوا هو ذهب لجمع الزكاة والصدقة فمن أين جاء سبي الجارية؟!

وقديماً طرحوا عليها إشكالات من أربعة أوجه: أحدها: كيف جاز لعلي أن يصطفي لنفسه مما لم يقسم؟ والثاني: كيف جاز له أن يطأ من غير استبراء؟ والثالث: كيف فعل هذا وقد علم غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب على فاطمة؟ والرابع: كيف يجوز لبريدة أن يبغض عليا، وما وجه هذا البغض؟ والرواية بتفصيلها عند الطبراني، أما البخاري فأشار إشارة دون تصريح للجارية. والبعض اعتبر أن مجيء علي في الرواية كان لنجران والتي كانت داخلة ضمن اليمن.

والغريب أن هذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي يحاول أن يثبت لعلي حقاً في الخمس، بينما لا توجد في أحاديث البخاري ومسلم كلها حديثاً واحداً يقول بأن الخمس لآل البيت.

والخلاصة أنها رواية متناقضة تعارض ما هو أقوى منها.

خامساً: أقدم ما ورد في إسلام همدان هو ما جاء في مسند أحمد (المتوفي: 241هـ)، وفي سيرة ابن هشام (ت 218هـ)، وفي طبقات ابن سعد (المتوفي: 230هـ)، وفي مصنف عبدالرزاق (المتوفي: 211هـ)، وفي مصنف ابن أبي شيبة (المتوفي 235هـ).

1-ما جاء في مسند أحمد أن رجلاً من همدان أسلم في العهد المكي ورجع إلى قومه فآمنوا:

– حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن عثمان يعني ابن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: ” هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي “، فأتاه رجل من همدان فقال: ” ممن أنت؟ ” فقال الرجل: من همدان قال: ” فهل عند قومك من منعة؟ ” قال: نعم، ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم، فأخبرهم، ثم آتيك من عام قابل، قال: ” نعم “، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب. (رقم الحديث 15192). وهو قيس بن مالك الذي صرح باسمه ابن سعد.

2-ما جاء في سيرة ابن هشام من قدوم رسالة ملوك حمير بالإسلام:

(قدوم رسول ملوك حمير): وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير، مقدمه من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم، الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك ابن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله. [سيرة ابن هشام 2/588].

3-ما جاء في طبقات ابن سعد من إسلام أحد زعماء همدان وتعهده بحماية النبي في قبيلته:

“وفد همدان: أخبرنا هشام بن محمد قال: حدثنا حبان بن هانئ بن مسلم بن قيس بن عمرو بن مالك بن لأي الهمداني ثم الأرحبي عن أشياخهم قالوا: قدم قيس بن مالك ابن سعد بن لأي الأرحبي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بمكة فقال: يا رسول الله أتيتك لأؤمن بك وأنصرك. فقال ص: مرحبا بك. أتأخذوني بما في يا معشر همدان. قال: نعم بأبي أنت وأمي! قال: فاذهب إلى قومك فإن فعلوا فارجع أذهب معك. فخرج قيس إلى قومه فأسلموا واغتسلوا في جوف المحورة وتوجهوا إلى القبلة. ثم خرج بإسلامهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: قد أسلم قومي وأمروني أن آخذك. فقال النبي. صنعم وافد القوم قيس!. وقال: وفيت وفى الله بك! ومسح بناصيته، وكتب عهده على قومه همدان أحمورها وغربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا وأن لهم ذمة الله وذمة رسوله. [طبقات ابن سعد 1/256].

كما يذكر ابن سعد في طبقاته أن هناك رجلا من أرحب همدان قد أسلم في العهد المكي حيث كان النبي عليه السلام يعرض نفسه على القبائل، قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: “أخبرنا هشام بن محمد. أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن أشياخ قومه قالوا: عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نفسه بالموسم على قبائل العرب فمر به رجل من أرحب يقال له عبد الله بن قيس ابن أم غزال فقال: هل عند قومك من منعة؟ قال: نعم. فعرض عليه الإسلام فأسلم. ثم إنه خاف أن يخفره قومه فوعده الحج من قابل ثم وجه الهمداني يريد قومه فقتله رجل من بني زبيد يقال له ذباب. ثم إن فتية من أرحب قتلوا ذبابا الزبيدي بعبد الله بن قيس. [طبقات ابن سعد 1/256].

وتحدث ابن سعد أيضاً عن وصول وفد من همدان إلى النبي عليه السلام ولكن دون تحديد لزمن وصول ذلك الوفد، وبعض المؤرخين يرجعه إلى عام الوفود في السنة التاسعة للهجرة، وسواء جاء الوفد لمبايعة النبي أو جاء لإعلان ما تبقى من أهل القبيلة للإسلام ففي كل ذلك مناقضة لما قيل إنهم أسلموا على يد علي. يقول ابن سعد: “أخبرنا علي بن محمد بن أبي سيف القرشي عمن سمى من رجاله من أهل العلم قالوا: قدم وفد همدان على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم مقطعات الحبرة مكففة بالديباج. وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار. فقال رسول الله: نعم الحي همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام. فأسلموا وكتب لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا بمخلاف خارف. ويام. وشاكر. وأهل الهضب. وحقاف الرمل من همدان لمن أسلم. [طبقات ابن سعد 1/257].

4-ما جاء في مصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة من رسالة النبي الحارث بن عبد كلال أحد أقيال اليمن وملوك حمير:

كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن إلى الحارث بن عبد كلال، ومن معه من أهل اليمن من معافر، وهمذان “أن على المؤمنين من صدقة الثمار العشر ما تسقي العين، وتسقي السماء، وعلى ما يسقى بالغرب نصف العشر”. [مصنف عبدالرزاق 4/135- مصنف ابن أبي شيبة 2/376].

هذا هو ما جاء في أقدم المصادر عن إسلام أهل اليمن عامة وإسلام همدان خاصة، فكيف نتجاوز الأقدم إلى المتأخر المناقض لما هو أقدم منه؟! فقط هو الاستغلال السياسي من يريد أن يعبث بالتاريخ كي يحقق مآربه..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى