فكر وثقافة

تمثيل الذاكرة في الرواية العربية

إبراهيم الكراوي

نسعى في هذه المقالة الكشف عن مختلف تمثلات الذاكرة في الخطاب الروائي، انطلاقا من الروايتين الأخيرتين لربيعة ريحان وهما: «الخالة أم هاني» و«بيتنا الكبير».

تمثيل الذاكرة الأنثوية: من اللسان إلى الكلام

تشكل العلامة «الخالة» في العنوان، بنية رمزية من حيث مرجعتيها الثقافية والاجتماعية. ففضاء الغلاف يعكس هوية تحيل على الأمومة التي تتجاوز مفهومها البيولوجي، إلى مفهوم رمزي يتمثل القرابة، والانتقال من الانتساب العائلي إلى الانتساب إلى الأمة، ومنه إلى الانتساب التاريخي، إذا استعرنا المصطلح الذي نحته حسن المودن، ولذا، تتشاكل الأمومة مع الأمة، من حيث دوال الأمومة وأبعادها الأنثروبولوجية. هكذا تكسر شخصية «الخالة» بالراوي شيماء وفريدة، نسق الصمت الذكوري. وهذا ما نستشفه من خلال علاقة «الخالة» بأزواجها الأربعة الذين انفصلت عنهم، في حين يصور فضاء مكون العنوان: «بيتنا الكبير» تلك العلاقة بين حدود المغلق والمفتوح، من خلال رصد تناقضات الأنساق الثقافية والاجتماعية، وسلطة شخصية الجد كبور، ومحاولته تكسير سلطة الصمت في مواجهة غطرسة المستعمر.

يمثل الصمت/الذاكرة البنية العميقة التي تقع على الحدود الخطيرة مع الموت الرمزي. فتتمثل شيماء الراوي في «الخالة» صورة شهرزاد، لتؤجل وتقاوم فعل الموت الرمزي من خلال فعل الاستنطاق واستبطان النفس، والحفر في الذاكرة، كما تفعل شخصية فريدة في «بيتنا الكبير». فيضطر الجد إلى الهرب من الحدود المقيدة بفضاء المدينة إلى اللامحدود بحثا عن الحرية، في حين تحاول الذات الأنثوية، الراوي الذي يروي بضمير الغائب في كلا الروايتين، الهروب من سلطة الماضي والتقاليد والطقوس الذكورية. فكلا الشخصيتين «فريدة» في بيتنا الكبير، أو الخالة في «الخالة أم هاني»، ظلتا تعانيان من عطالة عاطفية نتيجة جمود مشاعر الرجل ونزوعه الذكوري. تفشل فريدة في تحقيق طموحها في أن تدرس الإخراج المسرحي بعد وفاة العامل المساعد الجد الذي يتموقع بين قطبي الموجب والسالب، المغلق والمنفتح؛ بوصفه يجسد الهيمنة الذكورية في علاقته بزوجاته. وكلا الشخصيتين «الخالة» في الرواية الأولى، و»الجد الحاج كبور» في الرواية الثانية، يرتبطان مع الراوي بعلاقة حميمية، ما يجعلهما حافزا على ولادة سردية الذاكرة، والانتقال من سردية الأفراد إلى سردية التاريخ الجمعي..

معمارية اللغة الروائية وتمثل الذاكرة الأنثوية

تشكل الرواية خزانا يعكس الهوية المغربية معمارا.. حضارة، ذهنيات، ثقافات، تعددا إثنيا ولغويا. ومن ثم، ينتقل بنا الراوي من محكي الذاكرة الفردية إلى محكيات الأمة في مقاومتها للمستعمر، ومختلف صورها التي تكشف الحضارة العريقة التي طبعت فضاء أحداث الروايتين، كما ينتقل بنا على صعيد شكل المعنى من سردية المثل إلى تعدد جماليات اللهجات. فالموريسكي واليهودي والعربي والأمازيغي كلها مكونات ثقافية في الهوية المغربية؛ تستحضرها ربيعة ريحان وتعيد صوغها على لسان سارد يحكي تراجيدية الوجود الأنثوي. تكسر بنية المثل أحادية القطب الذكوري وسلطة اللغة الذكورية، كما يظهر من خلال خطاب الخالة والذوات الأنثوية الأزواج، في «بيتنا الكبير». فرمزية المثل بوصفها ذاكرة ثقافية تقاوم النسيان الذكوري، وتؤسس الهوية الأنثوية، تتمركز في اللغة كما تتمركز في الفضاء «بيتنا الكبير». وبذلك شكّل حضور المثل بنية سردية اشتغلت على تمطيط فعل الحكي والغوص في تشعباته من خلال شخصيتي «أم هاني» و«شيماء».

ومن ثم، جاء التبئير الداخلي على شخصية الراوي المتماثل حكائيا في النصين، كاشفا مخاض الانتقال من بناء الذات إلى بناء الجماعة، ومعاناة الذوات الأنثوية في مواجهة استبداد وذكورية الأزواج من جهة، وذكورية الأنساق الثقافية والتقاليد والطقوس التي وسمت الزواج، أو تلك التي تعري مفارقات الواقع، كما هو الأمر حين يصور الراوي مشهد اغتصاب الخالة داخل الضريح، كما يصور المسار السردي في «بيتنا الكبير» الحصار المضروب من قبل الجد على الأزواج الأربعة. تتقمص شيماء الراوي في «بيتنا الكبير» دور الصحافية لتجد نفسها في محاولة لسبر أغوار الذاكرة الأنثوية، من خلال الكتابة عن الخالة. غير أنها تبدو وكأنها الذات الأنثوية المنشطرة عن ذات الخالة، ومرآة تعكس أسئلة الذات الأنثوية، من حيث إنها موضوع للحكي. فكلا الشخصيتين المركزيتين تمثلان الأنوثة المضطهدة، التي ترتبط بفعل رغبة مشترك في بناء حلم اجتماعي وتكسير طوق العبودية، الذي يجسد النسق الذكوري. فهما يرتبطان بالذاكرة الماضي من حيث رغبتهما في الانعتاق من ذكوريته، ويمثلان الحاضر بوصفه الحلم والرغبة في بناء المجتمع الجديد.

إن شخصية الخالة تمثل نسقا ثقافيا ورمزيا في الآن نفسه. فهي نسق ثقافي بالنظر إلى أنها تنتمي إلى ثقافة الماضي، كما يتجلى من خلال طقوس الزواج والدخلة وغيرها.. وإذا كان دوسوسير يميز بين اللسان والكلام، فإننا نميز بين اللسان الجماعي أي النزعة الجماعية التي تعكس المشترك بين فئتين: الأولى تمثل النزعة الذكورية المرتبط بالاضطهاد، والثانية تمثل النزعة الأنثوية المرتبطة بالحرية والمتجذرة في الذات الأنثوية. يحيل الكلام إلى التمثل الفردي الأنثوي الرمزي؛ أي إلى الذاكرة بوصفها محتوى من حيث استرجاع طفولة شيماء والخالة فريدة والأزواج الأربعة، ورمزية تكرار علاقة الذات فريدة بالكتابة والاستباق، والتلخيص والاسترجاع، فهي كلها مقومات تعكس الذاكرة من حيث تمثلها الخطابي، فضلا عن كونها تلقي الضوء على العزلة الوجودية واللغوية الأنثوية، كما يظهر من خلال تعريف الراوي بـ» فريدة ابنة الضرة في بيتنا الكبير»، سارد تراجيدية الوجود. ولذا، فالكلام يكشف عن الأنثوية بوصفها بنيات سردية والنسوية بوصفها خطابا يشكل ويتشكل من خلاله الخطاب. وقد جاءت المفارقة الزمنية داخل الخطاب، لتلقي الضوء على التناقضات التي تسم الواقع الأنثوي ذاته، الذي تنسجه تفاصيل الخطاب الروائي.

هكذا يظهر أن الفعل الروائي يتماهى مع تمثلات الذاكرة في أبعادها التاريخية والحضارية والثقافية، بوصفها شكل محتوى يحفر في جماليات الكتابة الروائية ويؤسس للخطاب الروائي.

أنساق العلامات وإنتاج ثنائيات السرد

تمثل العبارة النووية «بيتنا الكبير» وحدة لفظية مشحونة بدلالات الذاكرة والنسق الثقافي، بحيث يتحول البيت إلى فضاء، يرتبط بالطقوس والتقاليد؛ ويحفر في ذاكرة تحيل على التاريخ. والضمير في بيتنا علامة صغرى متضمنة في العلامة الكبرى للعنوان تجسد هذه الثنائيات: المفرد والمركب، البسيط والمعقد، الكبير والصغير؛ مما سينقلنا إلى بنية المركز والهامش، الأعلى والأسفل، المنغلق والمنفتح والذكورة والأنوثة، مع اختلاف على مستوى تمثل قيم الأنوثة. ورغم الموقع الحميمي الذي يحتله الراوي ـ الأنثوي- في ذاكرة الجد فإن الذات الأنثوية فريدة، ما فتئت تعيش الهامش داخل فضاء البيت الكبير، وهو مكمن المفارقة التي يجسدها النسق الذكوري الاجتماعي. فهي ابنة الضرة «عقيدة» التي فرضت على أبيها، كما أنها انتقلت إلى فضاء الهامش الأنثوي على الهضبة التي لجأ إليها الجد، فرارا من بطش السلطة، بعد اصطدام جدها مع محصل المكوس.

إن ما يميز سردية الذاكرة في «بيتنا الكبير» هو التمفصل السردي المزدوج الذي يوزع الخطاب الروائي إلى مجموعة من الحالات والتحولات التي تتشاكل مع التاريخ، والأنساق الاجتماعية: فالخطاب الروائي يتمفصل إلى مسارين سرديين:

الأول: ما قبل وفاة الجد، وسيرة الذات الأنثوية فريدة قبل الولادة، وبعدها في ظل الاستعمار الفرنسي وذكورية المجتمع، وبالتالي بداية برنامج سردي يؤسس للمقاومة وهاجس التحرر وبناء حياة على الهضبة.

والثاني: ما بعد وفاة الجد في ظل الانتقال والتحولات الاجتماعية ما بعد الاستعمار، حيث سيبدأ برنامج سردي جديد يوقع لمحاولة بحث الذات الأنثوية عن ذاكرتها، ورغبتها في تأسيس الحاضر والتحرر من هيمنة السلطة الذكورية، من خلال اختيار دراسة السينما وطموح كتابة سيناريو يؤرخ للذاكرة. غير أن موت العامل المساعد الأب والجد سيعيق فعل تحقيق فريدة أحلامها، وبالتالي يتم إرجاء الرغبة الوجودية الأنثوية والإبقاء عليها في الهامش.

على سبيل التركيب

هكذا يظهر أن الفعل الروائي يتماهى مع تمثلات الذاكرة في أبعادها التاريخية والحضارية والثقافية، بوصفها شكل محتوى يحفر في جماليات الكتابة الروائية ويؤسس للخطاب الروائي. فحضور الذاكرة في الرواية يتجاوز كونه انعكاسا لمحتوى ومضامين محددة، إلى تمثلاته بوصفه شكل محتوى يؤسس الخطاب الروائي و ينسج بنياته السردية، وهذا ما تبين من خلال نسق اشتغال الزمن والشخصيات والفضاء ومنظورات الراوي.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى