كتابات خاصة

قذارة الواقع سؤال العقل

أحمد ناصر حميدان

كفى مزايدة علينا باسم دولة الجنوب, عشنا تفاصيلها منذ الخمسينات , عشنا حلاوة الطفولة , ومرارة الكفاح ,تعاطينا مع الفكر السائد, واستمتعنا بالشعارات, وحلمنا بالدولة الفاضلة , وصدقنا أنه سيأتي يوم  نقطف التفاح من الطاقة, كان حلما طفوليا رائعا, و وهما عشناه لكي نبقى عبيد للتجربة, ولا صوت يعلو فوق صوت الحزب.

هكذا كانت الايدلوجيا , تغيب العقل , ليتحول الناس لمجرد رعاع يحلمون أكثر مما يفكرون , لم نفكر يوما بإخفاقات اليوم , ولا يراد لنا ان نفكر و نستشرف المستقبل , وكيف لعقل يفكر ويستشرف دون حرية , حرية التفكير حينها غالية الثمن, لان التفكير سيكشف القناع عن قبح الايدلوجيا , تفكير سيطلق التعبير بالراي , والراي حينها يعرض صاحبه للمهالك , كان المعظم منبهرين بالشعارات , والتعصب سيد الموقف , كان الناس بحاجة لتغيير , ينقلهم لمخاض سياسي وعصف ذهني , أتت الوحدة في وقتها , بمخاضها الديمقراطي والتعددي, فتحت مجال للتفكير والتفكر , لصقل التجارب , وتقييم الذات والمرحلة , بدأ المجتمع يمارس حقه, ويدرك مصالحه , ولو ببط نحو مستقبل كانت مؤشراته تلوح في العقول قبل الأفق .

تحركت جماعات المصالح, والأنظمة الشمولية اوصيا الجنوب والشمال , محاولين ستر عورتهم التي كشفتها الوحدة , بما يمتلكون من سلاح وقبيلة وجغرافيا , وأشعلوا منصات الخطاب بمفردات الحرب , بالتهديد والوعيد فك الارتباط , فكوا ارتباطهم ببعض , وتصعب عليهم فك ارتباط الشعب , فصبوا غضبهم على الوحدة , التي كانت ضحيتهم , وبدأ كلا يستخدمها لمصالحه , ومازال الوطن ضحية تلك المصالح , والخطاب الذي ينقلنا من حربا لحروب عبثية , والوهن الذي سلمنا لأعداء مشروعنا الوطني و وحدتنا الوطنية , الذي لم يكتفوا بفك الارتباط , بل ذهبوا نحو تدمير ارث النضال السياسي والفكري الذي تشكل في منذ قرن في وجدان الأمة, تدمير فكرة الجمهورية والثورة والحرية والديمقراطية , انعشوا فينا الجهوية (الطائفية والمناطقية والمذهبية ), وأعادوا الروح للقوى المتخلفة , فقاموا بتغذية وريدها , فعادة الإمامة وعاد السلاطين , وعاد المستعمر , ومشاريعه التي دفنتها ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين , وتشكلت جبهات المقاومة , والرفض الشعبي , واختلطت أحلام الأوصياء بالأعداء , خلطات غريبة وعجيبة , ارتمى فيها التقدمي لحضن الرجعية , على أمل ان تأتي له بمصالح فقدها , فغرق في فسادها وقذارة فكرها , وها نحن اليوم في مواجهة تلك القذارة .

لمواجهة تلك القذارة نحتاج ان نطلق سؤال العقل ,عن واقع اليوم والخذلان الذي اصابنا , وتحول البعض من اممي الى مناطقي , ومن تقدمي لرجعي, أسئلة كثيرة في العقل , عن الانكسارات التي حولت الكثير منا لعنصري مناطقي , بشعور الرغبة والعصبية, والعودة لما قبل الوعي والمواقف الإنسانية , والعلم المشذب للسلوك ,والمطهر لعصبيات القرية, حيث عاد البعض طفلا متعصبا كما كان قبل ان يتعلم ويقرأ في تاريخ الأمم , ويطلع على حقوق الأمم ومواثيق الأمم .

ما أمسنا للعودة للعقل ولا مشروع دون فكر عقلاني يحمل وعيا , متجاوز كل عقبات الماضي ومعوقاته وارثه الرث , ولن يصنع ذلك الوعي دون عقل نقدي , استقرائي استدلالي تحليلي , يضع الحدث في إطاره التاريخي محددا علله وأسبابه وغاياته , مستخلصا عبره , مستشرفا أبعاده .

مازال سؤال العقل متعثرا , امام الكم الهائل من العاطفة, وما زال الأوصياء مصرين على التفكير نيابة عن الناس , ورسم السياسة دون مشاركتهم , وتقرير المصير نيابة عنهم ,وما زالت هذه الفكر تفرض نفسها علينا بطرق مختلفة , دون تقييم علمي للتجربة او التطرق للإخفاقات, ونتجاهل سؤال العقل  .

الحقيقة المرة اننا تبنينا قشرة الحداثة من دون الحداثة , ومن دون العقلانية التي أسست للحداثة , فالفكر الايدلوجيا حينها لم يدرك استحالة أي نهضة راسخة وقابلة للتقدم دون نهضة عقلية شاملة , واستحالة أي نهضة عقلية , دون حرية التفكير والراي والاعتقاد والمواقف, وبقينا نتناول مفردات ولغة تراثية نكررها في نطاق الترويج والتغرير , وخارج نطاق الوعي الإنساني والنهضوي, واقع اليوم يؤكد لنا بالبرهان فشلنا في صناعة وعي و إنسانية .

الحقيقة ان خطابنا ما زال ينزلق الى لغة العواطف والتمنيات, فيرجع أسباب التقهقر الى فكرة الثورة ومنجزاتها التحررية البعض وبكل بجاحه يتهم الجمهورية والثورة والوحدة والديمقراطية , بشكل مؤسف  .

دون العقل لا نستطيع ان نحمي منجزاتنا , فالوحدة تحتاج لعقل, والانفصال يحتاج لعقل , وما امسنا لمواقف عقلانية, تعيد ترتيب اولوياتنا, ومصالحنا , لنحدد مصيرنا دون الانزلاق في ما وصنا اليه من عمالة وارتهان وتبعية وحروب عبثية, وعصبية وكراهية وعنصرية, تقتلنا وتضعفنا وتسلمنا للأعداء, ولله في خلقه شؤون .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى