كتابات خاصة

زواج عائشة ومراجعة التراث الإسلامي

ما حصل مؤخراً في الهند من تصريح للمتحدث باسم الحزب الحاكم حول زواج نبينا عليه السلام من عائشة رضي الله عنها هو رأس الجليد فقط، ذلك الرأس الذي يخفي تحته كثيراً من الانتهاكات العنصرية التي تحدث للمسلمين هناك والتي تصاعدت في السنوات الأخيرة بشكل كبير وخاصة منذ أن جاءت هذه الحكومة، وفي هذا السياق الانتهاكي يأتي تصريح ذلك المسؤول كنوع من الاستفزاز والإساءة للمسلمين.

زوايا كثيرة يمكن التوقف عندها في هذا الحدث، وواحدة من أهم الزوايا التي نحتاجها هي ما أكرره من سنوات من “مراجعة الفكر الإسلامي” وإعادة قراءة مواضع متعددة فيه في إطار القيم الثابتة للنص القرآني، ومن هذه المواضيع مسألة “زواج عائشة” التي تمسك بها فريق كأنها نص قرآني، بدل أن يدرسها في إطار التاريخ الظني، وفريق آخر يصر على ذلك الخلط بين التاريخ والدين بهدف نفي الدين والاستغناء عنه.

لقد عادت بي الذاكرة إلى ذلك الجدل الذي حدث في عام 2010م في مجلس النواب اليمني، على إثر تداول المجلس لمشروع قانون يحدد (18عاما) كسن (آمن) لزواج الفتيات، وقد تم إحالته إلى لجنة التشريع في مجلس النواب اليمني والتي أصدرت بدورها وثيقة تتكون من 14 صفحة رفضت فيها تحديد سن أدنى للزواج معتبرة أن ذلك يتعارض مع القرآن والسْنة. وهو ما دفعني حينها لكتابة بحث حول “زواج الصغيرات” لتفنيد أدلتهم وإثبات أن ذلك القانون أقرب من روح الإسلام ومقاصده، وكان مما ناقشته سن زواج عائشة رضي الله عنها وقت زواجها من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قدمت الشواهد والقرائن التي وصلت إلى عشر قرائن على استبعاد ذلك السن الذي ذكرته رواية البخاري ومسلم، وأن السن الأقرب للحقيقة كان أكثر من خمسة عشر عاماً.

في هذا المقال سأسلط الضوء على دليلين أو شاهدين فقط، على أن أكمل البقية في مقال آخر.

الدليل الأول:

حين نرجح بين رواية تاريخية وأخرى مما جرى في زمن النبوة لا نرجحه على أساس المزاج، أو أننا صنعنا صورة مثالية من الخيال ثم ننتقي من التاريخ ما نحب، أو أننا نقطع تحت ضغط الثقافة المعاصرة فنختار الرواية الأضعف ونترك ما هو أقوى كما يظن البعض، وإنما الأمر يعود ببساطة إلى منهج أكثر دقة وتماسك في التعامل مع التاريخ والسيرة النبوية، وهذا المنهج يتلخص في النظر إلى المعطيات التي لدينا عن ذلك الزمن والتي تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

الأول: وصلنا بتواتر كبير أن هذا الكتاب (القرآن) صدر من محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يختلف المسلمون في ذلك، ولذلك سموه قطعي الثبوت، أي أنه ثبت قطعاً وروده عن النبي.

الثاني: وصلنا عن طريق آحادي، واحداً عن واحد، أو اثنين عن واحد، وتم تدوينه بعد قرنين من الزمن، واختلفوا اختلافاً كثيراً حوله، إثباتاً ونفياً، حجية وغير حجية …الخ، ولذلك سموه ظني الثبوت، أي أن ثبوته ظني، وكان تعاملهم معه على أساس ذلك الظن أنهم قد يقبلون أو يردون.

والمنهج الذي تولد من ذلك ويخدمه المنطق والعقل يقول: إن محاكمة الظني إلى القطعي هو المنهج الأسلم، وحين أقارن بين روايات التاريخ الظنية سواء كان سندها قوياً أو ضعيفاً بمنهج المحدثين، فذلك لا يهم لأنها كلها في دائرة الظني، وهذا هو منهج أهل الرأي الذين ينظرون لمتنها لا لسندها، فالمتن لتلك الروايات لا بد أن يتطابق مع رسالة النبي (القرآن) القطعية، إذ لا يعقل أن يأتي برسالة يبلغها للناس وهو في نفس الوقت يخالفها، ولا يعقل أيضاً أن أترك ما جاء في رسالته القطعية وأتمسك بما روي عنه ظناً، بل ظناً كبيراً.

يمكننا تكوين صورة عامة عن القيم والمبادئ التي تحدثت عنها الرسالة، والتي حكمت حياته عليه السلام، ثم نحاكم التاريخ إليها لا العكس، وإذا ما تأملنا تلك الرسالة للبحث عما يتعلق بموضوعنا سنجد أن هناك آية قرآنية يمكن أن نضعها كمبدأ قرآني يخص هذه المسألة وغيرها، مما يتعلق بسن تحمل المسؤولية عند الفرد ذكراً أو أنثى.

يقول تعالى في سورة النساء: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً﴾ [النساء: 6].

وهذه الآية تشترط لتسليم أموال اليتامى أن يكونوا بالغين وأن يكونوا أيضاً راشدين، فلم تكتف بالبلوغ فقط وإنما أضافت اختبار رشدهم بعد البلوغ، كل هذا في مسألة حفظ مال اليتيم، فكيف بحفظ النسل والأسرة، ألا يكون شروطه أقوى؟ ولذا فقد استدل الفقيهان ابن شبرمة وأبو بكر الأصم بهذه الآية على عدم جواز تزويج الصغيرة فقالا: “إنه لا يُزوَّج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله تعالى: ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ولا حاجة بهما إلى النكاح لأن مقصود النكاح طبعاً هو قضاء الشهوة وشرعاً النسل، والصغر ينافيهما ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ”(1 ). هذا فيما يخص تزويج الصغيرة من الإناث، وأما فيما يخص تزويج الصغير من الذكور فإنه يدخل أيضاً في قوله تعالى ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ لأن الآية تشملهما، وقد علق ابن العربي على الآية السابقة بقوله: ” يعني القدرة على الوطء وذلك في الذكور بالاحتلام، فإن عدم فالسن وذلك خمس عشرة سنة في رواية وثماني عشرة في أخرى”( 2). وهذا هو السن الذي يكون فيه الشاب راشداً ليدفع إليه المال ليحفظه، فكيف نراه غير مؤهل لاستلام المال قبل هذا السن ثم نراه مؤهلاً للزواج!!

 

الدليل الثاني:

حديث عائشة في البخاري أنها كانت جارية وقت نزول سورة القمر:

روى البخاري: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: ” لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ، ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 46]”( 3).

في هذه الرواية تقول عائشة: إن سورة القمر نزلت وهي بمكة جارية تلعب، فمتى نزلت السورة؟ وكم كان عمرها وقت نزول السورة؟ وهل يتطابق ذلك مع رواية زواجها بعمر تسع سنوات؟

يقول أكثر المفسرين والمحدثين بأن نزول سورة القمر كان في مكة قبل الهجرة بخمس سنوات، قال الواحدي: “قال عطاء عن ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية -يقصد (سيهزم الجمع)- وبين بدر سبع سنين”( 4). قال ابن حجر: “كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين”( 5). وقال ابن عاشور: “كان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة”(6 ).

فإذا كان نزول السورة قبل الهجرة بخمس سنوات عند أكثر المفسرين والمحدثين أي في السنة الثامنة للبعثة، وكانت عائشة في تلك السنة “جارية تلعب” فكم كان عمرها؟ وما معنى جارية؟

بحسب رواية البخاري ومسلم التي حددت سن عقدها وزواجها فإنها مولودة قبل الهجرة بست سنوات، أي أنها ولدت في السنة السابعة للبعثة، وهذا يتناقض مع هذه الرواية لأن عمرها حينها سنة واحدة، وليست جارية تلعب كما تقول في هذه الرواية!

فما معنى جارية وعلى أي عمر يطلق لفظ “الجارية”؟

في رواية البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (البِكْرُ تُسْتَأْذَنُ) قُلْتُ: إِنَّ البِكْرَ تَسْتَحْيِي؟ قَالَ: (إِذْنُهَا صُمَاتُهَا) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: (ِإنْ هَوِيَ رَجُلٌ جَارِيَةً يَتِيمَةً أَوْ بِكْرًا، فَأَبَتْ، فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ اليَتِيمَةُ، فَقَبِلَ القَاضِي شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلاَنِ ذَلِكَ، حَلَّ لَهُ الوَطْءُ)(7 ).

وقد فسر المحدثون لفظ الجارية هنا بأنها الفتية من النساء، قال الكرماني: “و (الجارية) الفتية من النساء”( 8). وقال العيني: “الجارية هي الفتية من النساء”(9 ).

ويقول الفيومي صاحب المصباح المنير: “والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها والأصل فيها الشابة لخفتها ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية وإن كانت عجوزا لا تقدر على السعي تسمية بما كانت عليه والجمع فيهما الجواري”(10).

ويقول محمد الأمين الهَرَري في شرحه لصحيح مسلم: “والجارية هي من النساء من لم يبلغ الحلم سميت بذلك لجريها في بيت أهلها على مقتضى ميلها، وتطلق على فتية النساء، .. والجارية أيضًا الأمة لجريها مستسخرة في أشغال مواليها ويقال لها ابنة اقعدي وقومي، والأصل فيها الشابة لخفتها ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية وإن كانت مسنة تسمية بما كانت عليه والجمع في الكل الجواري”(11 ).

من خلال ذلك ومن خلال ذكر لفظ الجارية في السياق يمكن القول إنها التي لم تبلغ سن البلوغ، فما هو سن البلوغ؟

تختلف المذاهب اختلافاً يسيراً في تحديد سن البلوغ، يقول ابن قدامة في المغني: “وأما السن، فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة. وبهذا قال الأوزاعي، والشافعي وأبو يوسف ومحمد.. وقال أصحابه -أي مالك-: سبع عشرة، أو ثماني عشرة. وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان. إحداهما، سبع عشرة، والثانية، ثماني عشرة”( 12).

وهذا هو السن الذي اعتمده الفقهاء في حالة عدم ظهور علامات البلوغ، فإذا كانت السقف الأعلى للجارية قبل البلوغ هو خمسة عشر عاماً على الحد الأدنى من المذاهب، فمتى يبدأ التمييز عند الصبي أو الجارية؟

يقدر الفقهاء السن السابعة أو الثامنة كسن للتمييز عند الطفل، يقول الجويني: “استقلال الصبي ببلوغ سن التمييز، وهو السبع والثمان”(13 ).

نستنتج من ذلك أن عمر الجارية المميزة والجارية البالغة يكون ما بين السابعة والخامسة عشرة، فإذا أخذنا أقل عمر للبلوغ وحذفنا ثلاث سنوات كحد أدنى للبلوغ هو الثانية عشرة، فإن عمرها وقت نزول السورة سيكون بين السابعة والحادية عشرة، وهذا هو أقرب معنى للفظ “جارية تلعب”، وبناء على ذلك فإن عمرها وقت زواجها على أقل تقدير -إن اعتمدنا سنها في السابعة وقت نزول السورة- سيكون أربعة عشر عاماً، أما إن اعتمدنا أن عمرها وقت نزول السورة أحد عشر عاماً فإنه عمرها وقت زواجها سيكون ثمانية عشر عاماً، وعلى كل الحالات سيناقض الرواية التي تقول: تسع سنوات.

……………………………….

(1 ) السرخسي في المبسوط 4/212.

( 2) أحكام القرآن 1/418.

( 3) البخاري برقم (6971) 9/26.

( 4) تفسير الواحدي 21/121. تفسير القرطبي 17/146.

( 5) فتح الباري 6/632.

(6 ) تفسير ابن عاشور 27/166.

( 7) البخاري برقم (4876) 6/143.

( 8) الكواكب الدراري 24/84.

( 9) عمدة القاري 24/118.

(10 ) المصباح المنير 1/97.

( 11) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم 15/285.

( 12) المغني 4/346.

( 13) نهاية المطلب في دراية المذهب 17/531.

**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.

*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى