كتابات خاصة

جدل الهوية في اليمن

د. عبدالله القيسي

ترتكز الهوية في أي مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب على عناصر ثلاثة رئيسية تتعاضد لتعمل على تماسك ذلك الشعب، أولها: اللغة التي يتحدث بها الشعب، فاللغة هي الكائن الحي الذي يربطهم ويرتب طريقة تفكريهم، وتحتاج اللغة لتظل حية إلى اشتقاقات وترجمات وصور مجازية جديدة، تتوسع بها إلى مجالات جديدة في الحياة.

ثانيها: التاريخ المشترك الذي يجمع ذلك الشعب، نضالاته وحضارته التي تمثل له زاداً نفسياً ومعرفياً للنهوض من جديد، واستلهاماً لحكم التاريخ ومواعظه.

ثالثها: الدين، حيث لا يخلو شعب من دين ما، شكّل وجدانه، وصنع للحياة الاجتماعية معنى، وسد فراغات في النفس البشرية لا يستطيع غيره سدها، والحديث عن الدين هنا كهوية باعتباره أهم مكون للثقافة وخاصة في مجتمعاتنا العربية، ولا يعني كونه هوية أن يكون كل أفراد المجتمع متدينين، وإنما قد يكون فيهم غير متدينين أو لادينيين، ولكنهم يعتبرون الدين هوية جامعة للشعب، فتركيا مثلاً تعتبر الإسلام هوية لها برغم أن نسبة المتدينين ليست بالكثيرة، وأوروبا التي يقل فيها المتدينون لم تتنازل عن هويتها المسيحية، والاتحاد الأوروبي في أحد أسبابه لرفض دخول تركيا هو أنهم يعتبرون أنفسهم نادياً مسيحياً، وفرنسا التي ترى نفسها علمانية صلبة تصدر نفسها أنها حامية الكاثوليك، وأمريكا تعتبر أنها منحة الإله للبروتستانت.

في خضم الحديث عن تلك العناصر علينا أن لا ندمر هويتنا باسم الهوية!!

ولكن كيف ذلك؟

حين نحاول إضعاف اللغة التي نتحدث بها اليوم أو نهمشها باستدعاء لغة قديمة صارت تاريخاً أكثر من كونها مؤثراً حياً..

لا بأس بإحياء القديم لغة وخطاً ولكن دون تهميش للغة العربية، وإلا فنحن نجهض ما بين أيدينا من ركن هوياتي في سبيل ما لا نستطيع إعادة إحيائه.

إن العربية تربطنا ببعد قومي عربي نحن في أمس الحاجة له، فلولا أدب وترجمات وفكر العربية التي تصدرها مجتمعات مستقرة لكنا في حالة تخلف أكبر، وكذلك البعد الإسلامي يمثل نفس الأهمية.

ومثل ذلك في تعاملنا مع التاريخ، فلا يمكن أن ألغي من هويتي تاريخ 1400 عام في سبيل إحياء ما قبله، كل ذلك مهم، ونضالات وحضارة وفكر 1400 عام لأجدادنا لا يمكن شطبه في لحظة انفعالية ضد عصابة سلالية، إن الدين الإسلامي ليس دين تلك العصابة السلالية، وإنما دين أولئك الأجداد الذين نصروه في لحظاته الأولى، أوساً وخزرجاً، ثم أولئك الذين نشروه في أصقاع الأرض، وعكسوا أخلاق التجار إلى البلدان التي تاجروا فيها، أما  السخرية من دين الإسلام ونبي الإسلام فليس إلا ضرباً للهوية، وشطباً لتلك النضالات كلها.

إنني لا يمكن أن أحتفل بقطعة أثرية قديمة ثم أفرح بهدم مسجد أثري قديم، سأكون متناقضاً وزائفاً تجاه الهوية التاريخية التي يفترض أن تجمع ذلك كله، أما أن أدعو لهدم مساجد أثرية -كما حصل في بعض مساجد الحديدة- بحجة أن العصابة السلالية تدعي الانتماء لهذه الدين فتلك حجة باهتة، وتكشف عن شيء آخر يتستر باسم الهوية.

ومثل ذلك استدعاء أديان قديمة على حساب تهميش الدين الذي يؤمن به المجتمع اليوم، إن ذلك سيخدم العصابة السلالية ويقدم لها هدية مجانية في مجتمع لا زال غالبه متمسكاً بالدين، وبدل أن نعيد المجتمع إلى الصورة الحقيقية للدين، من مساواة وعدالة وحرية يذهب البعض ليشطب الدين بأكمله بظنه أن المجتمع العامي البسيط سيذهب معه! إنها سذاجة تستفيد منها العصابة السلالية  لتصدر نفسها أنها حامية الدين ضد من يسخر منه ويحاربه.

إن الحديث عن الهوية يفترض أن يجمع تاريخ اليمن كله، وأن لا يهمش عناصر القوة الموجودة أو يحاول استبدالها بما صار تاريخاً، علينا أن نعتز بالتاريخ كله، وأن نحافظ على نقاط القوة التي بين أيدينا، أما أن نفكك نقاط قوتنا اليوم ونذهب للتاريخ فتلك سذاجة ستجعلنا في تخلف أكبر.

وفي الحديث عن نقاط قوتنا اليوم لا ننسى أن هناك عاملاً خارجياً له دور كبير في إجهاض أي حالة تقدم لنا، فالثورات المضادة التي دعمت الانقلابات ومنه الانقلاب الذي قامت به العصابة السلالية لم يكن مركزها أبوظبــي، فتلك المدينة ليست سوى لافتة للبلد الوظيفي السرطاني الذي زرعوه في جسد الوطن العربي ليقوم بهذه المهمة، إن إسرائيـ ـل التي تحميها أمريكا وأوروبا لم توجد لإحلال شعب مكان شعب آخر فقط، وإنما تنفق لها المليارات لتكون رأس حربة في إجهاض أي مشروع ديمقراطي تنموي في الوطن العربي، وقد استطاعت هذه الدولة الوظيفية أن تحقق أهدافها في جزء كبير، ولكن ما لم تستطع تحقيقه هو تطبيعها مع شعوب المنطقة، إذ لا زالت ترى نفسها جسماً شاذاً غريباً في المنطقة، فلا تاريخها يشبه تاريخ المنطقة، ولا دينها يشبه دين المنطقة، ولا لغتها تشبه لغة المنطقة.

ولما وجدت نفسها غريبة وشاذة في ذلك، وأن ذلك لازال عائقاً أمام تطبيعها، وأنه لا زال يشكل كتلة صلبة في مواجهتها لجأت لطريقة أخرى، وهي خلط الأوراق في المنطقة، وجعلها كله فيسفاء مختلفة لا يجمعها دين واحد ولا لغة واحدة ولا تاريخ مشترك واحد، فإذا انعزل كل شعب بتاريخه أو دينه أو لغته فإن تلك الدولة ستتجاوز شذوذها وغربتها، وستضعف تلك الدول المحيطة بها في أي مواجهة لها، ومن هنا فإن أي إحلال لدين قديم أمام دين جديد أو لغة قديمة أمام لغة حديثة أو تاريخ قديم أمام تاريخ حديث ليس إلا عاملاً مساعداً لتحقيق ذلك، سواء كان بوعي من أصحابه أو بدون وعي.

إنني لا أدعو لشطب القديم، لغة وتاريخاً وحضارة، وإنما أريد ضمه للحديث لنستفيد منه كله، ولا ندع مجالاً لمن يريد اختراقنا وإضعافنا بشطب جزء من هويتنا على حساب آخر..

إن عالم التواصل الاجتماعي قد يخلق لنا رأياً عاماً زائفاً، فنبني عليه بناء خاطئاً.. فنحن لا نعرف كيف تبدأ بعض الأفكار فيه، ولا ما هو دور الذباب الالكتروني الذي تجنده الدول لتحقيق أهدافها؟! ما معنى أن تجد كتابات بأسماء عربية تهاجم بلدان شمال أفريقيا بأنها ليست عربية؟! ثم يأتي الرد من تلك الدول بأن ذلك لا يشرفنا؟! ما يدرينا من يحرك ذلك كله؟ حتى لو كانت أسماء معروفة فما يدرينا ما هو دورها ووظيفتها؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى