كتابات خاصة

القيم العليا للسلطة السياسية

ربما صار معروفاً القول بأن النص الديني الإسلامي لم يفصل نظرية في السياسة أو الاقتصاد، وإنما ذكر قيماً أخلاقية عليا يدور العقل الإسلامي حولها، ويجتهد في إيجاد آلياتها بما يناسب الزمان والمكان والحال، ولكن ما هي تلك القيم العليا، وما مدى ثباتها في ظل حركة المجتمعات وتطور الخبرة البشرية للإنسان؟

لم يكن الوحي الديني بديلاً عن العقل الإنساني، وإنما هو متمم له ومكمل له، وهاد له فيما لا يستطيع الوصول إليه، ومنير له الطريق فيما قد يُظلَم عليه، ومثبت لإقدامه في القيم الأخلاقية التي تحفظ وجوده، وتؤسس لأرضية صلبة لزيادة الخير وتقليل الشر. فالوحي والعقل كلاهما من واهب واحد ولا يمكن أن يجعل أحدهما لاغياً للآخر كما يظن متعصبو النص أو العقل.

من يتأمل آيات النص القرآني يجد ثلاث قيم أخلاقية تنظم السلطة السياسية في الفكر الإسلامي، كل قيمة من تلك القيم تنظم إحدى السلطات الثلاث.

فـ”الشورى” هي القيمة التي ارتبطت بـ “الأمر” أي الشأن السياسي، أو ما نطلق عليه اليوم “السلطة التنفيذية”، فالأمر شورى بين الناس «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»، ولكن ما هي الآلية التي تحقق قيمة الشورى بحيث ينتظم الأمر للناس، هذا متروك للعقل البشري، ليفكر ويبدع في آليه تحقق أقصى ما يمكن من الشورى، وقد وصل الإنسان اليوم إلى أفضل آلية لذلك وهي “آلية الديمقراطية” التي تجعل على رأسها السلطة للشعب، ثم طورت آليات تحقق تلك السلطة للشعب، ولكن تلك الآليات ليست نهائية إذ لازال بإمكان الإنسان أن يطورها أكثر فأكثر، فآليات اليوم رغم نضوجها إلا أنها لازالت تعاني من ثغرات منها مثلاً تغول أو تسلط الأكثرية على الأقلية، فرغم المعالجات التي طرحت إلا أنها ليست كافية بعد، وهكذا يظل الإنسان ينشد الكمال وفي طريقه ذاك يتحمل الوقوع في مفسدة أصغر مقابل دفع ما هو أكبر.

و”العدل” هي القيمة التي ارتبطت بـ “الحكم” أي القضاء، أو ما نطلق عليه اليوم السلطة القضائية، فالعدل أساس الحكم، «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، والسلطة القضائية بتراتبيتها وآليتها اليوم هي أكثر ما يحقق العدل، وفي الإمكان أن تتطور بشكل أكبر يحقق استقلالها بشكل أكبر، فاستقلالها قوة لها، وتلك القوة تمنحها عدالة أكبر، ولكن الملاحظ حتى مع تطور النظرية السياسية في الفصل بين السلطات إلا أن السلطة القضائية لم تلق الاستقلال الكافي كما بقية السلطات، إذ بقيت مرتبطة بالسلطة التنفيذية، ولو عدنا إلى بداية عصر الإسلام حين كان القاضي يتمتع باستقلال كبير في الحكم يخوله بالحكم على الخليفة ذاته لرأينا تلك الصورة أكثر استقلالية مما يجري في مجتمعاتنا اليوم، وحتى في البلدان الأكثر مدنية وديمقراطية نلاحظ أن آلية اختيار القضاة لازالت بحاجة لمعايير تحقق استقلالاً وحيادية أكبر.

و”الحكمة” هي القيمة التي ارتبطت بـ “التشريع”، الذي يقوم به “أهل الاستنباط” أو “أهل الشورى” أو أهل الحل والعقد”، وهو ما نسميه اليوم بالسلطة التشريعية، والحكمة هي “القول أو الفعل السديد، على الوجه السديد في الوقت السديد”، فالقانون أو التشريع الذي يتصف بأكبر كم من الحكمة يساعد أكثر على تنظم حياة المجتمع واستقراره وتنميته، وإذا كانت هذه القوانين هي علاقتها بالسلطة القضائية، فإن علاقتها بالسلطة التنفيذية هي المراقبة والمحاسبة أو بالتعبير التراثي “الحل والعقد”، فتعقد لمن وافق الدستور والقانون وتحل من لا يوافق الدستور والقانون، ولذا فهي أهم السلطات الثلاث ولذا ينبغي أن يركز على آلياتها بشكل أكبر حتى تفرز حكماء المجتمع، وحكماؤه هم خبراؤه من المجالات والتخصصات والفئات، وما نلاحظه من آليات اليوم هو القصور عن تحقيق مثل ذلك، ليس بسبب صعوبتها إذ بالإمكان تحقيق أفضل مما هو عليه اليوم، ولكن ذلك ارتبط بالصراع والهيمنة الدولية والتي لازال لشركاتها عابرات القارات نوع من التحكم بخيوط الديمقراطية، بحيث تصعد رأس المال إلى السلطة، فتبقى الرأسمالية حاكمة بقيمها وأخلاقها، ولذا ارتبطت الانتخابات بحملات إعلانية ضخمة تجعل فرص صاحب الإعلانات والحملات الكبيرة أكثر نجاحاً حتى لو كان أقل حكمة، فدولة مثل أمريكا مثلاً تصل تكلفة حملاتها إلى مليارات الدولارات، ومن يستطيع دفع ذلك غير شركات عملاقة تريد الاستئثار بالقرار. وهذا يعتبر سحب لسلطة الشعب التي يفترض أنها فوق الشركات، وحتى تكون السلطة للشعب بطريقة أفضل لابد أن يتم سحب تلك السلطة أو تخفيفها بإجراءات تخفف من تأثير رأسمال المال على العلمية الديمقراطية، وهذا بالإمكان لو أنه دخل دائرة المفكر فيه، ومن ثم دائرة الإرادة الصادقة لذلك.

في إطار هذه القيم الأساسية الثلاث يمكن للباحث أو المفكر الإسلامي أن يصوغ نظرية سياسية لمجتمعه، وكلما تحققت نظريته بأكبر كم من الشورى والعدل والحكمة كانت هي الأنضج والأفضل، وبهذا السقف سيرى أن الخبرة البشرية التي وصل لها الآخر في تلك الآليات ليست الكمال، وإنما بالإمكان نقدها وتقويمها وتهذيبها بما يحقق تلك القيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى