كتابات خاصة

خليفةٌ أم إمام؟

نسمع باستمرار في خطابنا الديني عن الخليفة أبي بكر، وأمير المؤمنين عمر، والإمام علي، دون أن نتساءل لماذا أُطلِق لكل واحد منهم لقباً مختلفاً ومن أطلقه؟ خليفة، أمير، إمام! يظن الكثير أنها ألقاب مترادفة، بينما هي في الحقيقة تكشف عن فلسفة أو رؤية في الحكم لدى أبرز تيارين سياسيين في تاريخنا الإسلامي، وهما السنة والشيعة، وأقول أنهما تيارين سياسيين باعتبار البداية والجذور، وأنا هنا لا أوازي بينهما كطائفة أمام أخرى فهذا أحد الأخطاء الشائعة، إذ العلاقة بينهما أشبه بالمتن والهامش، فالشيعة فرقة صغيرة حجماً وعدداً وتأثيراً تاريخياً بجوار السنة، والسنة ليست فئة واحدة كي نقول عنها طائفة فهي أشكال وأنواع وطوائف ومن هنا لا يصح مقابلتهما كطائفتين.

كانت بداية التسمية مع الخليفة الأول أبي بكر، فبعد موت النبي عليه السلام اختلف الصحابة في تسمية من سيخلفه، ثم اتفقوا على تسميته خليفة رسول الله، ولكن السؤال المطروح، في ماذا سيخلفه أبو بكر؟ هل سيخلفه في النبوة؟ هل سيكون أبوبكر نبياً ورسولاً؟ لا يزعم أحد بذلك؟ إذن في ماذا سيخلفه؟

لقد كان الصحابة جميعاً يدركون أن النبي عليه السلام لم يكن في تصرفاته وأحواله نبياً ورسولاً فقط، بل كان أيضاً ولي أمرهم الذي يدير الأمر (الشأن السياسي) بالتشاور معهم، وهذا ما دلت عليه شواهد عدة، كمشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر، والآيات التي تحدثت عن الأمر وأنه شورى بينهم، وعن طاعة أولي الأمر وأمر النبي بالتشاور مع المؤمنين كلها تصب في هذا المقام للنبي عليه السلام، بل ويدركون أيضاً أن له مقاماً ثالثاً ليس ملزماً لهم في طاعته، وإنما هو إرشادي أو جبلي بشري كتدخله في الشافعة لمغيث عند بريرة وكقصة تأبير النحل وتطببه وبيعه وشرائه وأكله وشربه ونومه …الخ.

ومن خلال هذه الصورة الواضحة عند الصحابة لمقامات النبي عليه السلام (تصرفاته وأحواله) يدركون جيداً أن من سيخلفه لن يخلفه في مقام النبوة ولا المقام البشري الجبلي، وإنما سيخلفه فقط في المقام الثاني وهو مقام “ولاية الأمر”، ولو تتبعنا تفاصيل هذا المقام الذي كان أحد أحوال النبي في تصرفاته معهم سنجد أنه يتنوع بين ثلاثة أفعال، فهو مرة يتشاور معهم كما أمرته الآيات في شئون الحرب والسلم والاقتصاد ثم يختار ما تواطؤا عليه من الأمر، وهو هنا لا يوجه لهم أمر دينياً خالصاً فيطيعوه كما في مقام الرسالة، وإنما يلتزم بما أمره الله به “وشاورهم في الأمر”، والأمر كما قلت هو الشأن السياسي والاقتصادي للمجتمع، والذي يعود في إدارته لإرادة المجتمع بحسب الآية الأخرى “وأمرهم شورى بينهم” أي عليهم أن يتشاوروا في أمرهم ويختاروا الأنسب والأصلح لهم، دون أن يحدد لهم الوحي تفاصيل ما يختاروه، وإنما اكتفى بالهدي الأخلاقي العام، وترك الباقي للحكمة التي سينتجها العقل البشري، الذي سيعيش أزمنة وأمكنة وبيئات وأحوال مختلفة، فيختار وينتج ما يحقق المصلحة له ويستفيد من كل تجربة جيدة.

وتصرف ثان من تصرفاته عليه السلام مما يندرج تحت هذا مقام ولاية الأمر هو فصله بين النزاعات في هذا المجتمع، وهذا ما أشار له القرآن بلفظ “الحكم” فهو القاضي بينهم، وعليهم أن يحكموه فيما شجر بينهم، ثم يلتزموا بما حكم بينهم، ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى بينهم، فهو القاضي الذي يتحرى العدل بحسب ما أمره الله “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، فإن لم يحكموا بالعدل فإنهم الظالمون الكافرون الفاسقون، والمطلوب هو تحري العدل قدر الإمكان، وإلا فقد يخطئ القاضي دون قصد بعد أن يستنفد جهده، ولذا صرح النبي عليه السلام بأنه في هذا المقام يحكم باجتهاده وأنه بشر، وأنه قد يكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، فيقضي له بنحو ما سمع، ولكنه يرهبهم بالزاجر الأخروي أن من قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، وفي هذا المقام لم يكن يتنزل عليه الوحي ليفصل بين منازعات الناس، وإنما ستأمره الآيات أن يحكم بما أراه الله، أي بما توصل له اجتهاده، ولا يكن للخائنين خصيماً ومدافعاً حتى لو كانوا مؤمنين وخصمهم غير مؤمن.

أما التصرف الثالث في مقام ولاية الأمر والذي قد يخفي على كثير من الباحثين في الفكر الاسلامي لاشتباكه كما يظنون مع مقام الرسالة، فهو التشريع الاجتهادي الذي كان يقوم استناداً لهذا المقام، وتمتاز الاجتهادات التشريعية في هذا المقام أنها تستند للقيم العليا في الوحي، كما أنها قد تكون تقييدا لمباح أو تخصيصا لعام بحسب ما تقتضيه مصلحة المجتمع، فإذا كانت المصلحة حقيقية يقينية اجتهد في التقييد والتخصيص، وهو ما سنلاحظه فيما بعد في تصرفات عمر التي كان التزاماً واضحاً بهذا النهج.

إذن لدينا ثلاثة تصرفات بارزة في مقام ولاية الأمر، وهي إدارة الأمر بالشورى، والقضاء أو الحكم بالعدل، والتشريع الاجتهادي، ومجمل هذه الثلاثة هي ما ورثه الخليفة من بعده بحسب الرؤية السنية، ولكنها لن تتركز في شخصية واحدة من بعده كما كانت مجتمعة فيه عليه السلام، وإنما ستتوزع بين ثلاث فئات، فهناك أمير أو خليفة يدير الأمر، وهناك قاض يحكم بين الناس ويحكم على الخليفة ذاته، وهناك هيئة أو فئة تمارس الاجتهاد التشريعي وهم الفقهاء من كبار الصحابة، والذين يفترض أن يشاورهم الخليفة في بعض التشريعات، هكذا كانت الصورة في إدارة الأمر من أولي الأمر، ولعل استخدام القرآن لهذا اللفظ بالجمع “أولي” دلالة على تفتيتها بين ثلاث جهات حتى لا ينفرد أحدها بالسلطة ويكون هناك طغيان، وهي صورة متقدمة جداً إذا نظرنا لها في سياقها التاريخي وقارنها بالدول والامبراطوريات في ذلك الزمن.

فيما بعد ستتطور هذه الصورة لمنظور السياسة وإن ضعفت في تطبيقها من قبل الدول التي حكمت، فالأمير سيكون له وزير ويكون له ولاة، والقاضي سيكون له قضاة في كل مكان وسيكون هو قاضي القضاة، أما أصحاب التشريع فستكون هناك فئة خاصة تسمى “أهل الحل والعقد” و”أهل الاختيار” و”أهل الشورى” وهذه الأخيرة يشترط أن تكون من أفقه الناس كي يجتهدوا في التشريع بما يحقق المصلحة.. وهي أشبه بالسلطات الثلاث اليوم: “التنفيذية (الأمر)، القضائية (القضاء والحكم)، التشريعية (التشريع)”.

بعد هذه المقدمة الطويلة تعالوا بنا لنعود إلى المسميات الثلاثة لنعرف كيف جاءت وما تحمله من مضمون، أما مصطلح “خليفة” فهو المصطلح الذي اختاروه انطلاقاً من كونه سيخلف النبي في مقام ولاية الأمر كما تحدثنا، ولكن حين جاء عمر رأى في الأمر مشقة حين النداء له، إذ سيكون هو “خليفة خليفة رسول الله” لأنه ليس خليفة رسول الله مباشرة كما أبي بكر، وتخيل من سيأتي بعده هل سيكون خليفة خليفة خليفة رسول الله!! إن الأمر سيكون شاقاً وغير عملي ولا منطقي، إذن فليجتهد عمر وليعد إلى الأصل ذاته، ولكن ما هو الأصل الذي سيعود له عمر ويشتق الاسم منه؟ ألم نقل أنه خلف النبي في مقام ولاية الأمر؟ إذن فالاسم القرآني العربي لمن كان في مقامه هو “الأمير” فهو “أمير المؤمنين”، فهو مشتق من الأمر، وعلى ذلك سار الصحابة جميعهم وتركوا لفظ خليفة ونادوه بأمير المؤمنين.

استمر لفظ أمير المؤمنين لمن جاء بعده “عثمان” و”علي” وكانت هذه هي التسمية الشائعة، إلى أن بدأ بعض الشيعة في استخدام مصطلح “الإمام” ويقصدون به “علي” ليميزوه عمن سبقه، ولكن ما هي دلالة هذا اللفظ عندهم وكيف تسرب لاحقاً للفكر السني دون التنبه لمراده الشيعي؟

بحسب ما أوضحت أعلاه من مقام ثلاثة للنبي وهي مقام النبوة ومقام ولاية الأمر ومقام البشر الإنسان، فإن الشيعة لا يرون أن من خلف رسول الله قد خلفه في مقام ولاية الأمر فقط، بل وفي مقام النبوة أيضاً، وبنوا على هذا افتراضات كثيرة، أولها أن من بعده لن يكون اختياراً من الناس وإنما من الله وعبر الرسول، لأنه لن يكون أميراً فقط وإنما سيستمر الوحي بعد النبي إلى هذا الإمام، وقوله وفعله سيكون مثل قول النبي وفعله التي جعلوها كلها وحياً، وهذا هو ما يعمل به المذهب الشيعي الاثنى عشري تحديدا، والذي يرى كل أولئك الأئمة مختارين من الله، وموحى إليهم، وأنهم ورثوا ذلك بعد النبي عليه السلام.

ثم يأتي التوظيف لبعض الآيات القرآنية، فكل أناس سيأتون يوم القيامة بإمامهم، ورغم أن الآية تشير للأنبياء إلا أنهم سيوسعونها للأئمة ومن ثم من لم يؤمن بالإمام فإنه سيكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة.

وهذا الفارق الجوهري بين الرؤيتين السنية والشيعية للحكم يمكن أن يبنى عليه الكثير، فالسلطة في الفكر السني ستكون عائدة لعموم الناس بالشورى، بينما هي في الفكر الشيعي ستكون عائدة للإمام، وستكون السلطة في الفكر السني اجتهادية يحاسب عليها الشعب، ولا تدعي أنها موكلة من الله أو مختارة منه، وهذا فارق جوهري بين نظريتي “الخلافة” و”الإمامة”، كما أن المناداة بالفصل بين سلطتين دينية وسياسية هي أليق بالفكر الشيعي الذي يتلبس فيه الإمام أو نائبه تلك الصفة، أما الأمير في الفكر السني فليس له مثل تلك السلطة، وإن دخلت قليلاً من آثار الفكر الشيعي للسني، وظهرت بعض الأفكار التي لا تنتمي لأصل الفكرة وإنما التصقت فيها في فترات بعينها، أو نسبت أقوال وآثار لأصحابها دون تمحيص وتدقيق..

إن استقراء مقامات النبي وأحواله وتصرفاته قد فسرت لي الكثير مما جرى في التاريخ النبوي في ضوء الوحي، كما أنها قد وضحت بشكل أكبر تلك الرؤية للفكر السياسي الإسلامي دونما تكلف في تأويلها أو جلب لشواهد في مكانها، ولولا التراجع الحضاري لكانت تبلورت بشكل أدق ثم تطورت لواقع نعيشه.

**المقال خاص بموقع “يمن مونيتور” ويمنع نشره وتداوله إلا بذكر المصدر الرئيس له.

*** المقال يعبر عن رأي كاتبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى