كتابات خاصة

مسلك آخر في مقاصد الشريعة (3)

د.عبدالله القيسي

 ومن يمنع عن الإنسان حريته فهو يقف أمام الأمانة العظمى، ويقطع طريق الاختبار للإنسان، ويقف بذلك ضد مقصد الدين من خلق الإنسان.

في نهاية هذه السلسلة التي حاولت أن تبرز مسلكا وتقسيما للمقاصد أو الكليات، ورأت في ذلك التقسيم عند العز بن عبدالسلام ما هو أكثر اتساقا وقربا من فقه الموازنات إذا ما قورن ما صنفه الشاطبي، أود هنا أن أذكر ملاحظة مهمة على تلك الدراسات حول المقاصد إذ أن مدخلها لدراسة المقاصد كان هو العقوبات المنصوصة في القرآن، فهذا هو المدخل الأساس عندهم، ثم بعد ذلك قال الشاطبي إن استقراء الشريعة يؤكد ذلك، ولكن لم نجد استقراء كاملا لكل الأحكام بحيث يدرجها ضمن تلك الكليات الخمس وضمن المراتب الثلاث الضروريات والحاجيات والتحسينيات، حتى نؤكد فكرة الاستقراء.
وحتى رؤيتهم للعقوبات نجد أنهم اختلفوا ربما بسبب عدم ذكر بعض العقوبات نصا في القرآن وإنما بعضها جاءت برواية كعقوبة المرتد وبعضها اجتهادا كعقوبة السكران، فالجويني تحدث عن حفظ النفس والنسل والمال وأظن استناده على العقوبات المنصوصة في القرآن فقط، ثم زاد الغزالي في شفاء الغليل حفظ العقل استنادا لعقوبة شرب الخمر، ثم زاد في المستصفى حفظ الدين استنادا لعقوبة الردة، ثم من جاء بعدهم وعمل بنفس منطقهم وأضاف حفظ العرض استنادا لعقوبة القذف.
يؤكد الطوفي ذلك عند تعريفه للضروري حيث يقول: “هو ما عرف التفات الشرع إليه؛ كحفظ الدين بقتل المرتد والداعية المبتدع، والعقل بحد السكر والنفس بالقصاص، والنسب والعرض بحد الزنا والقذف والمال بقطع السارق..” وقال أيضا في مختصر الروضة الندية عن الضروريات الخمس: “وهي حفظ الدين بقتل المرتد… وحفظ العقل بحد السكر… وحفظ النفس بالقصاص وحفظ النسب بحد الزنا، وحفظ العرض بحد القذف، وحفظ المال بقطع السارق”.
كان هذا هو المدخل لدراسة مقاصد الشريعة عند السلف لكني أرى أن هناك مسلكا ومدخلا لدراسة المقاصد هو أكثر دقة واستنادا على النص، دون الاستغناء عما ذكروه وخاصة عند المسلك الذي أبرزته، فكلا التصورين عن المقاصد يعضد بعضه بعضا.
والمدخل الذي أراه مناسبا لدراسة المقاصد هو البحث في الآيات التي تحدثت عن هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب عموما، وعن هدف رسالة نبينا محمد عليه السلام وهدف نزول القرآن خصوصا، ثم نبحث في مقاصد الخلق ونربطها مع مقاصد الدين في رؤية مقاصدية واحدة.
بعد استقراء الآيات القرآنية والنظر في الآيات التي تحكي عن تلك المقاصد توقفت عن الآيات التي تذكر المقاصد العامة:
فأما مقصد إنزال الكتب وإرسال الرسل فتقول الآية: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحديد:٢٥ ، هذه آية واضحة تقول بباسطة أن هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط، أي العدل، والقسط في رأيي لفظ أشمل من العدل، إذ العدل جزء من القسط، فالقسط يطلق على كل حكم أو تصرف منك تجاه الآخرين يكون بعيداً عن الجور والظلم، أما العدل فهو حكمك بين طرفين دون جور أو ظلم، فيطلب منك العدل، أي أن تكون كفة الميزان متعادلة بين الطرفين، فلا تقف في كف واحدة من الميزان فتكون غير عادل، ولذا كان هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب هو القسط كونه الأشمل والأعم وكون العدل جزء منه، ولكن الناس تداولوا لفظ العدل اليوم مكان القسط.
وما عن مقصد رسالة نبينا عليه السلام فتقول الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:١٠٧، وهذه الآية واضحة في أن الرحمة للعالمين هي هدف رسالة نبينا عليه السلام.
ومن مقاصد رسالته ما ذكرته الآية في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ الجمعة:2. فإنها توضح أن هدفه هو تزكية الناس وتعلميهم الكتاب والحكمة.
وأما عن هدف نزول القرآن فتقول الآية: ﴿طه ۝ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ طه: ١-٢، فالآية تقول لم ينزل القرآن لشقائك بل لسعادتك أيها الإنسان.
ومن مقاصد إرسال الرسل ما جاء في قوله تعال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ النحل:٣٦ ، فهدف بعثة كل نبي هو تحقيق التوحيد والعبودية لله سبحانه.
أما عن مقاصد الخلق فتقول الآية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:٥٦ ، فالعبودية لله مقصد من مقاصد الخلق. وكذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك:٢ ؛ فالاختبار بحسن العمل مقصد من مقاصد الخلق.
ومن مقاصد الخلق أيضا ما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ هود:٦١ ، فاستعمار الأرض أي عمارتها مقصد من مقاصد الخلق، وعمارتها تكون بقيم الحق والخير والجمال.
هذه تقريبا هي مقاصد الدين العامة التي ذكرتها الآيات، ويمكن أن نوزعها على تقسيمات الدي الثلاث، فيكون التوحيد والعبودية مقصد العقائد، والتزكية مقصد الشعائر، والعدل والرحمة مقصد الشريعة، ومن تحقق بذلك فقد حقق لنفسه السعادة وانسجم مع الكون، وحقق عمارة الأرض ونجح في اختبار حسن العمل.
ولن يكون اختبار حقيقي للإنسان إلا إذا منح الحرية، لأن الإكراه يسقط عنه المسؤولية، فحريته هي التي تمنحه المسؤولية في الآخرة، وعبادة الله طوعا لا كرها لا تتحقق إلا بالحرية، ولهذا كانت الحرية هي الأمانة التي تحملها الإنسان وأشفقت بقية المخلوقات عن حملها، لما فيها من مسؤولية في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ الأحزاب:٧٢ ، ومنع الله سبحانه الإكراهَ على الإنسان من أي جهة كانت حتى لو كانت من الأنبياء والرسل، ولا يُكره إنسانٌ على أي فكرة كانت حتى لو كان الدين نفسه ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة:٢٥٦. ومن يمنع عن الإنسان حريته فهو يقف أمام الأمانة العظمى، ويقطع طريق الاختبار للإنسان، ويقف بذلك ضد مقصد الدين من خلق الإنسان.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى