كتابات خاصة

الأشاعرة والسلفيون والمعتزلة… 1300 سنة من الصراع.. لماذا لم يتوقف؟

 

يجري نقاش حاد في وسائل التواصل حول قضايا الوجود وتحديداً في تعريف ماهية الله الخالق وصفاته يتزعمه شخصيات ثقافية وفكرية تأثيرها واسع ويصدرون من ثلاث تيارات معرفية: السلفية والاشاعرة والمعتزلة.

على امتداد 1300 سنة كان هذا النقاش يحدث في حدود هِجر العلم والمساجد، أما الآن أصبح الفضاء الرقمي هو بيئته ومجاله وهو تعبير عن تحول بنيوي في المجال العام، لكن هل هناك تحول في الأفكار ومضامينها وآلية إنتاجها؟ وقبل ذلك سؤالنا المحوري لماذا يأخذ النقاش في قضايا الوجود وصفات الله طابع جدلي وصراع حاد بين هذه التيارات؟

نحن هنا لن نشارك في النقاشات الجزئية فهذا أصبح علم قائم بذاته وهو علم الكلام أو أصول الدين ولدينا تراث ضخم من المؤلفات ولكن سنعيد طرح النقاش من زاوية ابستمولوجية بهدف تعريف ماهية القضايا الجدلية التي يحتدم حولها النقاش، وأهدافها والإجابة على سؤال العنوان.

يخبرنا التراث المعرفي لعلم الكلام، أن المعتزلة هي أول فرقة في الاسلام احترفت علم الكلام، وهو منهج حجاجي عقلي استدعته ضرورة السجال مع الفرق الفلسفية التي كان منطلقها بلاد فراس والكوفة وحران.

بعد أن توسعت رقعة الاسلام الى بغداد وفارس وإلى حران أقصى شمال بلاد الشام ( تقع الان في الأراضي التركية) دخلت هذه المجتمعات في الاسلام ولكنهم مارسوه بمفاهيم عالقة في أذهانهم من الديانة الزرادشتية والفلسفة الغنوصية التي هي في الأصل منحوله من الفلسفة الافلاطونية.

ولأن الفرس هزموا عسكرياً ولم يهزموا ثقافياً فقد مارس المثقفون الفرس المعارضة ضد الدولة العربية الاسلامية من خلال الحِجاج الديني المستند على الثقافة التاريخية الفارسية بهدف مناهضة الدولة العربية الاسلامية. فيما بعد أصبحت هذه الثقافة لها منهج ويُمارس بعملية عقلية تلقائية تطور على يد ابن سينا وسماها (الفلسفة المشرقية).

وبنفس القدر، مارس المثقفون في العراق وتحديدا في الكوفة، وبلاد الشام المعارضة ضد الدولة العربية الاسلامية من تصورات ثقافية بمرجعية توليفية تعود أمشاجها إلى الفلسفة الغنوصية. تكون منها عقل الاسماعيلية والفرق الشيعية والصوفية، وقد استقرأ تطور هذه الحالة الجابري في ” تكوين العقل العربي”.

تحولت هذه التيارات الفلسفية والباطنية إلى ظاهرة اجتماعية سياسية خطرة، استدعت الضرورة من العرب المسلمين، سلطة وعلماء، للرد عليهم بمنطق عقلي يوازي منطقهم العقلي بهدف (حماية الإسلام من الالحاد)، فظهر الاعتزال على يد مؤسسه واصل بن عطاء في الربع الأخير من الدولة الأموية، وأحدث نقله في علم الكلام وهو يعتبر الفلسفة العربية بموازاة الفلسفة اليونانية.

وسميت بالمعتزلة في قصة ينقلها لنا التراث لا يهم سردها هنا.. إلا أن ما يهمنا هو معرفة الهدف من ممارسة المعتزلة لـ الكلام. لقد كان الهدف كما ينقله لنا تراثهم، هو الرد على (الملحدين= المثقفون الفرس والغنوصيون) والحفاظ على القرآن من التحريف في تحريف فهمه والاسلام من ضياعه لدى الناس.

ما الفائدة من هذا المقدمة؟

من خلالها، عرفنا كيف تطور علم الكلام في المجال العربي الاسلامي أو كما يطلق عليه، أيضاً، علم أصول الدين: معرفة الله الخالق وصفاته، وشؤون الكون، والماورائيات الغيبية، ثم عرفنا الظروف السياسية والثقافية التي نشأ فيه أهدافه.

الآن يمكننا معرفة كيف تحول هدف علم الكلام لدى المعتزلة من الرد على (الملحدين) في المجال العام، إلى صراع بيني داخل المجال الخاص العربي الإسلامي. صراع مع مدرسة أهل الرواية الحنابلة ومدرسة الاشاعرة.

إن معرفة الصراع الكلامي (العقائدي) بين المدارس الثلاث يتطلب مننا معرفة القضايا التي احتدموا حولها وظروف نشأتها.

ينقل لنا صاحب “الملل والنحل” أن الحقبة الزمنية ما بين القرن الثاني والثالث وأوائل القرن الرابع هجرية، هي فترة ظهور واستقواء بالترتيب: المعتزلة وأهل الرواية والأشاعرة.

مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء توفي 130 هـ، خلف تيار عقلاني ومثل هذا التيار في اليمن القاضي عبدالجبار جعفر، أما مؤسس أهل الرواية أحمد بن حنبل تـ 241 هـ، وهو زعيم المتكلمين لتيار أصبح يسمى فيما بعد “السلفيون” واشتهر لدينا في اليمن أبي الخير يحيى العمراني، صاحب كتاب “الانتصار” في علم الكلام وكتابه الضخم “البيان” في عشرة مجلدات، أما الأشاعرة فقد أسسها أبو الحسن الأشعري تـ 324هـ، وأبرز من مثلها لدينا عبدالله سعيد اليافعي.

من الصعب أن نسرد في هذه المقالة آراء المدارس الثلاث في علم الكلام واختلافهم الحاد في إدراك لماهية الله الخالق وبداية خلق الكون وصيرورته فلكل مدرسة تركت لنا موروث ضخم من المؤلفات لكن سنورد مثال يجري حوله في الوقت الراهن نقاش واسع:

(ثم استوى على العرش). المعتزلة يفهمون معنى استواء الله على العرش بأنه (الاستيلاء عليه)، لكن الحنابلة السلفيون يفسرون الاستواء وفقاً للمعنى اللغوي الظاهر للنص كما يفهمه العرب، ثم يتوقفون مباشرة في التفكير عن كيفية الاستواء لأن الانتقال للعقل لتجسيد صورة الاستواء هو بالتالي تشيبه الله باستواء الانسان على عرشه وهو الذي (ليس كمثله شيء). يختلف الاشاعرة معهما، يقولون إن الاستواء يعني العلو والرفعة، لأن الحديث عن المعنى الظاهر للاستواء هو الجلوس وهذا يقود لحقيقة احتياج الله لحيز مكاني، وهو الذي لا يحوزه مكان وزمان وبالتالي فهو موجود بذاته في كل مكان.

إننا الآن أمام مقولات متعددة تظهر اختلاف تفسير معنى الاستواء ومثله سارت خلافات حادة في تفسير الغيبيات وماهية الوجود، وتحولت فيما بعد من جدل كلامي إلى عقائد وظفتها دولة الخلافة الإسلامية المتعاقبة على مدار تاريخنا السياسي لقتال الآخر.

وكما عرفنا الاختلاف في نتائج معنى الاستواء وتحوله إلى عقائد، فمن الضروري معرفة آلية التوصل لهذه النتائج لدى المدارس الثلاث، أي بلغة البحوث المعاصرة، معرفة النظم المنهجية وأدواتها لدراسة المشكلة بهدف الوصول إلى استنتاجات ومن ثم التعميم.

يتخذ المتكلمون المعتزلة العقل نظاماً معرفياً لإدراك وتفسير الوجود، وقد عرفنا الضرورة التي أوجدت الكلام العقلي وذلك للرد على (الملحدون الفرس والغنوصيون)، فيما بقي أهل الرواية متمسكين في معرفة الله والوجود بما جاء به القرآن والرسول ورواه الصحابة والتابعين لذلك يتحدد النظام المعرفي لإدراك الوجود في النص كما يسمعوه أو يقرأوه، أما الاشاعرة فأخذوا نظام المعتزلة العقل ونظام أهل الرواية النص ثم خالفوهما في التفاصيل، فعملوا بالنص لكن بتأويله وليس على ظاهره، وعملوا بالعقل ولكن بخلطة فلسفية سيناوية اشراقية.

يمكن القول إذن، أن الصراع بين المدارس الثلاث لم يكن مجرد اختلاف أيدلوجي عقائدي ولكنه اختلاف في النظم المعرفية المنتجة للأيدولوجيات ذاتها.

وكما أن هدف متكلمي المعتزلة كان في الرد على (الملحدين) فقد كان له هدف آخر هو المعارضة للدولة الاموية ثم العباسية والصراع مع أهل الراوية. في المقابل ألف أحمد بن حنبل بهدف الرد على المعتزلة بعد تحولهم إلى تيار له قوته وتأثيره. أما الاشاعرة فقد بدأ أبو الحسن الاشعري متكلماً معتزلاً واستمر 40 سنة، ثم انقلب على المعتزلة بعد هذه السنين وعاد إلى النص القرآني وابتكر نظام التأويل بديلا عن العقل.

لقد سعى كما يقول الجابري، من ممارسة المنهج العقلي إبطال الاستدلال لدى المعتزلة وبالتالي فالهدف إبطال المدلول برمته ( أي إبطال العقل). هذا يعني أننا أمام نظام معرفي أشعري أُسس بهدف الصراع مع الاعتزال ونفيها.

ولأن الاشعرية فرقة كلامية فقد تأثرت مع مرور الزمان وتغير المكان فتفرع منها التصوف العرفاني وذابت بعض فصائلها فيه وبعضها مارست الفلسفة فشوهت المعقول العقلي (البرهان) والمعقول النصي (البيان).

بنفس الأهداف مع فارق المكان والمكان، أسس القاضي جعفر عبدالسلام في القرن السادس هجرية في اليمن أراء المعتزلة في كتابه الشهير “الدامغ للباطل من مذهب الحنابل” ووصفهم بـ(الحشوية)، وألف زعيم المتكلمين الحنابلة أبي الخير العمراني “الانتصار للرد على المعتزلة الأشرار”، أما الأشاعرة فقد تأخروا عن تأسيس آرائهم لموروث عالم إلى القرن الثامن هجرية فكتب زعيم المتكلمين الاشاعرة عبدالله بن أسعد اليافعي “مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة”.

لا نحتاج إلى استخراج أهداف المتكلمين في المدارس الثلاث من تأسيسهم لعلم الكلام في اليمن فعناوين ما كتبوه هو بيان يغني عما استبطنوه.

لم ينتهي الحال عند أهداف المدارس الثلاث في ممارسة علم الكلام كجدل شفوي ولكنهم حين حولوه إلى لغة علمية مقروءة أسسوه على تلك الأهداف وسعوا لتحقيقها من خلال طرق الاستدلال والقياسات.

لقد عرفنا أن العقل هو أداة التوصل إلى المعرفة بالنسبة للمعتزلة إلا أن تحقيق المعرفة تحتاج إلى برهان عقلي منطقي أي يحتاج إلى طريقة للاستدلال على كل حقائق الوجود، فتوصلوا إلى نظرية (قياس الغائب على الشاهد) وهي النظرية التي يمكن القول إنها شكلت جوهر العقل الاعتزالي وتصوراته نحو الوجود.

وللتمثل على هذا القياس في إثبات صفة العِلم لله من خلال الافعال الانسانية المُحكمة المتقنة، أي أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان تدل على علمه، واتقان العمل دليل على سعة علمه، ومثل ذلك مخلوقات الله فإنها تدل على علم الله الخالق كما دلت أفعالنا على علمنا.

إن هذا القياس يتجلى في اعتقادهم بتعميم كوني: بأن ما في الأرض (الشاهد) هو مثال لما في السماء (الغائب).

ولقد اجتروا هذا القياس إلى الشأن السياسي. فكما أن الكواكب تمضي بانتظام فإن العلة في انتظامها هو تدبير وعلم لاله تعالى وبالتالي فإن انتظام حياة البشرية وتدبير أمورهم لا يكون الا بوجود إمام عالم عادل للمسلمين. إلى هُنا فالقياس مقبول عقلياً فالمعرفة العلمية والعدالة مطلوبة في الحاكم إلا أن الهادويين أخذوا فكرة الإمام وحصروها في سلالة العلويين، واختلفوا مع المطرفية الممثلة للاعتزال بعد رفضهم مبدأ الحصر.

نحن الآن، لسنا أمام تأسيس لأزمة معرفية مع الحنابلة السلفيين والاشاعرة فحسب ولكن أزمة في المجال السياسي أيضاً. لقد وضف الهادويون النظام العقلي الاعتزالي بما فيه من أصول واستدلالات (قياس الغائب على الشاهد) في السياسة، ولدواعي استمرار سلطتهم كان لابد من استمرار الجدل الكلامي ضد السلفيين والأشاعرة في اليمن وحمايتها منهم.

أما السلفيون فقد اعتمدوا في البداية على ما أسسه ابن حنبل في تقرير الوجود وفقاً للفهم الظاهر للقرآن والاستدلال به من خلال معرفة علم البيان: لغة القرآن وما روي عن الرسول والصحابة. اتهموهم الخصوم بـ(الحشوية) التي تتخذ المعرفة بالله عن طريق السمع، يقول ابن رشد وهو ينقد أسس المعرفة لديهم:” الذين قالوا إن طريق معرفة وجود الله هو السمع لا العقل فالظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع ودعا فيها الى التصديق بوجود الباري بأدلة عقلية منصوص عليها فيها”.

كما أن تأسيس العمراني لعلم الكلام في اليمن جاء لـ”ضرورة الرد على المعتزلة والأشاعرة” وهو ما وضحه في مقدمة كتابه “الانتصار” أي أنه لم يؤصل عن الوجود كعلم مستقل بذاته وإنما للرد والنقض ونفي مقولات الآخرين.

وفيما يتعلق بالأشاعرة فقد ذهبوا بعيداً بتأويلاتهم وظنونهم الكلامية، فكثير من الأصول التي بنوا عليها معارفهم كما يقول ابن رشد (هي سفسطائية وتجحد كثير من الضروريات مثل ثبوت الاعراض وتأُثير الأِشياء بعضها في بعض والاسباب الضرورية للمسببات وتأويلاتهم ليسوا فيها مع الجمهور ولا مع الخواص) ثم يقول ( لقد أوقعوا الناس – بسبب التأويل والظنون- في شنآن وتباغض وحروب ومحقوا الشرع وفرقوا الناس).

وبعد.. يمكننا الآن الإجابة على سؤال العنوان، عن أسباب الصراع ولماذا لم ينتهي بين المدارس الثلاث: السلفية والاشاعرة والمعتزلة في اليمن والوطن العربي عموماً. إننا أمام تراث علمي يبحث عن ماهية الوجود، ساهم في انتاجه العقل اليمني من أنظمة معرفية مختلفة: النص الظاهر والرواية والنص المأول والعقل، وبالتالي كانت النتائج والتعميمات مختلفة.

ولأننا ما زلنا متصلين بالتراث اتصال معرفة وهوية، ونعيد تدارسه كل يوم، فإن مضامينه ظل هو هو لم يتغير الا ما كان في المزيد من الشروحات وشرح الشروحات والحواشي.

كما أن زعماء المتكلمين حين أسسوا هذا التراث العلمي على أهداف جوهرية تتمثل في الرد والنقض ونفي الآخر فإن مضامينه تحمل عناصر الصراع أكثر مما هو علم مجرد وممارسة عقليه وبيانية في بحث الوجود وبالتالي فإننا نمارس هذا التراث ونحن نحمل معنا أدوات الرد والنقض ونفي الآخر.

وأخيراً، لم يكن يحتدم الكلام حول الوجود في فراغ ولكن المتكلمون عاشوا إما في مجال السلطة لدعمها أو في المجتمع للتعبير عن المعارضة.

……………………………….

معلومات هذه المقالة مسترجعه من:

-الملل والنحل، الشهرستاني.

-الانتصار، أبو الخير العمراني

-الدامغ، القاضي جعفر

-مرهم العلل، عبدالله بن أسعد اليافعي.

-تكوين العقل العربي، محمد الجابري.

-مصادر الفكر الإسلامي، عبدالله الحبشي.

-مقدمة في الاتجاهات الفكرية والسياسية في اليمن، أحمد عبدالله عارف.

-قياس الغائب على الشاهد.. قيمته المعرفية وتطبيقاته العقائدية، مصطفى عزيزي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى