كتابات خاصة

حتى لا تمزقنا مسائل الخلاف

محمد عزان

كثير من الأفكار وأخبار التاريخ يتم إعادة صياغتها تحت تأثير جدل وصراعات عاشها الناس في مختلف الأزمنة، وفرضوا مشاعرهم واستنتاجاتهم عليها، حتى قدمها كلٌ حسب رؤيته، ليمهد بذلك لبناء مواقف يسعى من خلالها لتصفية حسابات الماضي، ورسم حدود وعلامات الوفاق والفراق في الحاضر والمستقبل. لذلك لا بد من دراسة المعارف في ضوء منهج يستحضر ثلاثة أصول:

كثير من الأفكار وأخبار التاريخ يتم إعادة صياغتها تحت تأثير جدل وصراعات عاشها الناس في مختلف الأزمنة، وفرضوا مشاعرهم واستنتاجاتهم عليها، حتى قدمها كلٌ حسب رؤيته، ليمهد بذلك لبناء مواقف يسعى من خلالها لتصفية حسابات الماضي، ورسم حدود وعلامات الوفاق والفراق في الحاضر والمستقبل. لذلك لا بد من دراسة المعارف في ضوء منهج يستحضر ثلاثة أصول:
 
(1) التثبت في النقل، بالتأكد من صحة المستندات التي يعتمد عليها البحث، كرواية الأخبار التي تحكي أحداثاً تنشأ في ضوئها أحكام الولاء والبراء، والتأييد والرفض؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء/36). وهذا نهي صريح عن اتخاذ أي موقف لا يعتمد على حقائق ثابتة وواضحة، بعيدة عن مجرد الظنون والاحتمالات، إذ العلم إدراك الشيء على حقيقته دون مجرد الظنون والتخرُّصات، ومن صور التثبت:
 
أـ التأكد من صحة ما نقل عن أي مسألة من أخبار، عبر الطرق العلمية المتعارف عليها، ثم تقديم ما هو صحيح معلوم على ما هو مظنون يرويه الآحاد أو يتداوله الضعفاء وأصحاب الأهواء والمتعصبون، فليس كل خبر يرويه راو، أو قصة يحكيها مؤرخ يتعين قبولها، واتخاذ مواقف في ضوئها؛ لأننا عند مراجعة كثير من الأخبار والروايات التي أسست لمواقف الغلو أو القطيعة نجد أنها إما ضعيفة أو مكذوبة.
 
ب ـ معرفة ظروف ما صح من الأقوال، وأوجه ما ثبت من الأفعال، عن أي شخص فلا يحمل العتاب أو اللوم ـ مثلا ـ على العداوة أو البراءة، ولا يستنتج من ذلك حكماً بالتكفير والتفسيق لأن النزاع بمثل ذلك واقع حتى بين الأنبياء صلوات الله عليهم.
 
ج ـ الانتقاء ومجافاة الموضوعية، حيث يقوم الباحث بعرض ودراسة النصوص التي توافق هواه وتؤيد ما يريد، ويتجاهل ما سواها، فيمسك بأي كلام يرد في جانب من هذه المسألة أو تلك، ويتجاهل عشرات النصوص الواردة في جانب آخر من نفس المسألة، أو يردد رواية مغمورة عن فلان وفلان، ويتجاهل جميع النصوص الثابتة عنه في نفس المسألة.
 
(2) جودة الفهم، المتمثل في استيعاب الفكرة وتقديمها بتجرد وحياد، ويساعد على ذلك أمور، منها:
 
أ ـ التفريق بين المصطلحات وتحديد معانيها بدقة، حتى لا ينتقد شيئاً أو يُصدر – في ضوئه –  حكماً، وهو – في الواقع –  يريد شيئا آخر، كالتفريق بين العدالة المقصود بها: الاستقامة في الدين، والعدالة المقصود بها: جودة الحفظ ودقة الرواية، وهو ما يطلق عليه بعض الأصوليين: عدالة الديانة، وعدالة الرواية.
 
ب ـ التخلص من العواطف والمشاعر التي نشأت في ظل الموروث المذهبي، لأنها غالباً ما تصنعها ردات الفعل والجدل بين الفرقاء، وليس من السهل التغلب عليها؛ لذلك تجد المصابين بداء التمذهب لا ينظرون إلى الأشياء إلا من خلال مسلمات مذاهبهم، بل ويحَكِّمون ما يألفون فيما عداه، ويطبعون كل شيء بمزاجهم.
 
ج ـ تجنب تفسير النوايا ودعوى معرفة المقاصد؛ لأن ذلك غيب لا يعلمه إلا الله، والقرائن غالباً ما تكون ضحية مقدمات غير دقيقة أو تعصبات موبوءة، رغم أنها ـ مع سلامتها ـ  لا تكشف عن الاعتقاد وإن ساعدت على فهم ظاهر المراد.
 
د ـ التفريق بين أنواع الخطاب، فالخبر غير التشريع، والوصف غير الحكم، والخاص لا يتناول العام، والمطلق لا يحمل على المقيد في جميع الأحوال، فلا يحمل ـ مثلا ـ ما ورد في خصوص أي مسألة على عمومها لا حالا ولا مكانا ولا زمانا، ولا يجوز تحويل الجملة الخبرية العارضة إلى حكم إنشائي جازم .
 
(3) دقة الحكم والاستنتاج، ويأتي دوره بعد تصحيح النقل، وتجويد الفهم، ويلزم لمراعاة ذلك أمور، منها:
 
أ ـ التفريق بين نوعية ما يساق الكلام بصدده، كالتفريق بين ذنب وذنب، وخطأ وخطيئة، فليس كل ذنب يوجب الهلاك، وتلزم عنده البراءة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء/48). وليس الخطأ المطلق كالخطيئة المتعمدة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب/5).
 
ب ـ التأكد من حال المحكوم فيه، هل هو باق على حاله حينما صدر الحكم بحقه، أم أنه قد تغير، لأنه إن تغير وجب أن يتغير الحكم فيه؛ إذ الحكم على أي شيء يستحضر جميع مكوناته والمؤثرات في وجوده. فليس المصر على شيء كالراجع عنه، ولا يلزم من الإيمان بجملة فكرة الإيمان بتفاصيلها على وجه ما.
 
ج ـ اجتناب تطوير الخطأ عن طريق الإلزام، كأن يقال: إذا ثبت أن فلاناً أخذ من مال فلان درهماً، فإنه يكون بذلك قد تعدى وظلم، والظالم مخالف للكتاب والسنة، والمخالف لهما عاص لله والرسول، والعاصي لله والرسول من أهل النار، وأهل النار هم الكفار، والكفار يجب البراءة منهم.
 
فهذه النقاط جزء من الضوابط العامة التي تساعد على منهجية البحث وموضوعيته، وأنا على يقين بأن وضع أي قضية في سياقها الطبيعي؛ يجعلها أقرب إلى تصور الحقيقة، ويلطف أجواء النزاع، ويكشف لنا أن الأمر لا يدعو إلى ديمومة الخلاف والعداوة وتبادل التهم والشتائم والجفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى