كتابات خاصة

واقعية المدَنِيّة وأحلام الكهنوت

محمد عزان

يثير الكلام عن الدولة المدنية الحديثة حفيظة بعض التيارات الدينية السياسية، لسببين: إما لأنها تشعر بأن فكرة المدنية ستحرر المجتمع من الروح الكهنوتية التي ظلت تغرسها في عقول وقلوب الناس منذ زمن بعيد. يثير الكلام عن الدولة المدنية الحديثة حفيظة بعض التيارات الدينية السياسية، لسببين: إما لأنها تشعر بأن فكرة المدنية ستحرر المجتمع من الروح الكهنوتية التي ظلت تغرسها في عقول وقلوب الناس منذ زمن بعيد، وبذلك يتحرر المجتمع من تبعيتهم ويصبح مالكا لأمره مشاركا في تسيير شؤنه دون رهبة من مخالفة المقدس والوقوع في إثم الخروج عن الحق الإلهي، وإما لأن مفهوماً خاطئاً قُدم لتلك التيارات عن معنى الدولة المدنية.
ففهم بعضهم أن المدنية ضد الدين، وأن المجتمع المسلم سيحكم بما هو خلاف شرع الله؛ بينما يقصد بالدولة المدنية تلك الدولة التي تمنح جميع مواطنيها حق التعبير عن قناعاتهم وممارسة شعائرهم الخاصة، بما لا يتعدى إلى خصوصية الآخرين، أما الشأن العام الذي له صلة بالغير فإنها تنظمه قوانين وتشريعات يقرها المجتمع، وبالتأكيد أن المجتمع لن يقر ما يخالف جوهر دينه، وإن خالف وجهات نظر بعض المتدينين، أو لم ينسجم مع موروثهم التاريخي، وهذا نهج التعايش الذى انتهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمح لأهل الكتاب بممارسة شعائرهم، وترك لهم الأولوية في إدارة شؤونهم، وتعايش معهم في المدينة وفق وثيقة مرضية للجميع.
ويبدو أن المشكلة لدى بعض رجال الدين تعود إلى الخلط بين: الدين، وما فهمه من الدين. وبالتالي فهو يرى أن كل شيء يخالف فهمه أو فهم سلفه، فهو مخالف للشريعة، حتى وإن كان موافقاً لفهم آخرين من المدرسة الدينية نفسها.
على أنه ليس هنالك نموذجاً ثابتاً لما يوصف بدولة الخلافة، فإن أرادوا نموذج الخلافة العباسية أو الأموية؛ فهي نماذج يختلف الناس في الحكم عليها كل حسب قربه وبعده منها، وإن أرادوا نموذج الخلافة الراشدة، فليس فيها ما هو ثابت حتى يتعين اقتفاء أثره.
فحتى في طريقة تولي شأن المجتمع نجد أن كل خليفة من الخلفاء الأربعة جاء إلى الخلافة بطريقة تختلف عن الآخر، وفي أسلوب إدارة شأن المجتمع كان لكل منهم طريقة مختلفة عن الآخر، حتى أن علي بن أبي طالب رفض البيعة المشروطة بأن يمضي على المنهج الخاص الذي سلكه من سبقه من الخلفاء، ليس لأنه يراه باطلاً في حينه، ولكن لأنه سيعيش أموراً ومستجدات ينبغي معالجتها بطريقة مختلفة.
هذا فضلاً عن أن في حياتنا من التفاصيل ما لم يكن في زمن الخلافة الراشدة، فإما أن نتركه فنعطل الحياة ونوقف الزمن، وإما أن ننتج له تشريعات وقوانين جديدة في ضوء الثوابت الإنسانية والأخلاقية، وهذا هو معنى المدنية الحديثة.
ويمكن أن نأخذ من تجربة الأجيال السابقة ما نحتاجه في الإطار العام من الأمور الإنسانية والدينية والأخلاقية العامة التي تنسجم مع فطرة الإنسان، وهذا مما لا يمانع فيه أحد.
وأتصور أن الدولة الأنسب لمجتمعنا، هي الدولة التي تجمع بين أمرين: الحرية والعدالة؛ لأن الحرية تتيح للإنسان أن يبدع وينتج ويرتقي، ويتخلص من حالة الاحتقان الذي يتحول إلى موقف سلبي ضد الآخرين. بينما يبعث العدلُ الطمأنينة ويحول دون الظلم والغبن، ويمنع التصادم الذي يحوّل الحرية إلى فوضى وصدام.
وحينما يرتبط الناس بدستور وقوانين وضعوها في ضوء مصالحهم، فإنهم ينظرون إليها كمنتج بشري لتنظيم وضبط أوضاع معينة في مرحلة معينة، لذلك لا يمانعون من تطويرها إذ لا مانع شرعي ولا عقلي ولا أخلاقي لتعديله بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة وتطلع الشعوب، فالله تعالى قد جدد رسالات الأنبياء بما يتناسب مع العصور والمجتمعات، فكيف بما يتعلق بمسالك الحياة.
وإنما يتخوف بعضهم من تعديل بعض المواد المتعلقة بجعل الشريعة مصدر التشريعات والقوانين، ولا أعتقد أن في بقاء ذلك مشكلة، خصوصاً إذا أدركنا أن الشريعة غير المذهب، وأن الدين شيء والمتدينون شيء آخر.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى