فنون

فيروز… 83 وردة تتفتح في حياة العرب وقضاياهم

سمير حاج

الإرث الرحبانيّ الشّعريّ والموسيقيّ بلغته المحكية اللبنانية والفصحى البسيطة، الهادلة حينا والهادرة أحيانا، والمتناغم مع حنجرتها والمنسوج بالفلسفة والمعاني العميقة، شكّل الرافعة والنّورج لصوت «جارة القمر».

 ■ فيروز .. قيثارة الصباحات وكنارة أرز لبنان وقمر القدس الحزين، شنّفت بصوتها الرنّان آذان الملايين في صحارى العرب وأصقاع الغربة وأسرت قلوبهم عقودا، وأصبحت أغانيها وطنهم الثاني المتخيّل. غنّت الوطن والحزن والفرح والحبّ والشموخ والذكريات، برومانسية الطفلة الحالمة الراكضة وراء «طيارة من ورق وخيطان». صوت فيروز صدى لأصوات المحتفين بالحياة وآهات الموجوعين، يهفهف مثل نسيم بليل مموسق بعذوبة أصوات عرائس البحر التي تسمّر سامعيها، وينثال مثل رذاذ من ديمة سكوب، ويشتد أحيانا كالعاصفة فينهمر زخات وشآبيب مطر في آذان الفيروزيين أسرى صوتك ومدمنيه. فيروز .. نشيدنا الوطنيّ السرمديّ وهويتنا الكونية وحروف الوصل في زمن الفصل.
الفرد العربي والواقع السياسي
الإرث الرحبانيّ الشّعريّ والموسيقيّ بلغته المحكية اللبنانية والفصحى البسيطة، الهادلة حينا والهادرة أحيانا، والمتناغم مع حنجرتها والمنسوج بالفلسفة والمعاني العميقة، شكّل الرافعة والنّورج لصوت «جارة القمر». لقد كتب واختار ولحّن الأخوان رحباني، زوجها عاصي (1923- 1986) وصهرها منصور (1925- 2009) وابنها زياد (1956) في ما بعد، الأغنية المبدعة الملتزمة بهموم الفرد العربي، الراسمة للواقع السياسيّ والاجتماعيّ العربيّ، من الخليج إلى المحيط، إبان المدّ القوميّ والتحرّري حتى أفوله، وغدت أشعار الأخوين رحباني في حنجرة فيروز، يمامات تهرب من قفص لتحلّق في سماء زرقاء بعيدة.
الرحابنة وفيروز وفلسلطين
كتب الأخوان رحباني في المأساة الفلسطينية والحلم الفلسطينيّ بعيد النكبة فرائد شعرية مرهفة الحسّ، تصور المأساة وتستشرف العودة مثل قصيدة «أذكر يوما كنت بيافا» التي غنّاها جوزيف عازار، كما كتبوا شعرا يمجّد البقاء في الوطن، حين كان الشعر العربي والفلسطينيّ في الشتات ممسوحا بالبكائيات وجلد الذات. شعر الأخوين رحبانيّ هذا رومانسيّ مكتوب بلغة فلسفية مرهفة، وجرس موسيقي هادئ حينا، وصاخب أحيانا تناغما مع الكلمة، وهو مسكون برؤية ثورية عابقة بالفرح والأمل ومحمّل بمعان عميقة وصادقة بمنظور من عاش النكبة وإرهاصاتها. وهو من الشعر البسيط العميق المشحون بالومضات، يفتح كوات في ذهن المتلّقي وينبش فيه ذاكرة النكبة ويترك حيرة وأسئلة عميقة وكبيرة كما في مقطع مشلوخ من «غاب نهار آخر»، يقول الأخوان رحباتي: «ودّعني طير وقال/ إلى بلادي أمضي/ ذكّرني بطردي/وكبر السؤال/غاب نهار آخر ـ نهار آخر». كما أنّ الصوت والأداء الفيروزي الميلودرامي لهذه القصيدة القصصية ممسوح بالأسى الشفيف الذي يختزل النكبة بفقرة، ومصاحب بكاريزما مثيرة ومؤثرة بامتياز. وفي قصيدة «زهرة المدائن» تبرز هوية المكان الفلسطيني المسلوب عام 1967 «البيت لنا والقدس لنا» وفي «راجعون» يطغى حلم العودة الذي شكّل موتيفا في أشعار فترة ما بعد النكبة، برومانسية جمالية طاغية «بلادي أعدني إليها ولو زهرة يا ربيع».
الشعر الرحباني بشكل عام عميق الأفكار وحداثيّ في لغته وصوره وأسلوبه الجماليّ، وليس صدفة ما نسب إلى الشاعر الراحل عمر أبي ريشة (1910 – 1990) ما قاله لعاصي الرحباني، بعد حفل في معرض دمشق الدولي: «خذوا كلّ شعري وأعطوني قصيدتكما «لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب» التي يقولا فيها: «نسيت من يده أن أسترد يدي/ طال السلام وطالت رفة الهدب». شعرهما ملتزم ومتفاعل مع الحدث والهمّ العربي عامة والفلسطيني خاصة. ومن ناحية ثانية يحمل رؤية ثورية فهو مشحون بالأمل يحتفي ويمجّد الفلسطينيين الباقين في وطنهم وينعتهم بتشبيهات ثورية كما في «جسر العودة»، «تقفون كشجر الزيتون/ كجذوع الزمن تقيمون /وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة /يا منزرعين بمنازلكم / قلبي معكم وسلامي لكم». لقد شكّل التناغم بين النصوص المغنّاة والموسيقى الرحبانية والصوت الفيروزي الأقانيم الثلاثة في محراب «سفيرة النّجوم».
 
فيروز في القدس العتيقة
في يناير/كانون الثاني 1964 زارت فيروز والأخوان رحباني وفرقتهما مدينة القدس العتيقة، وهي تحت السيادة الأردنية للمشاركة في تراتيل دينية في كنيسة القيامة في القدس، وفي كنيسة المهد في بيت لحم احتفالا بزيارة البابا بولس السادس للقدس العتيقة. ومن خلال زيارتها شاهدت المأساة الفلسطينية وتأثرت بحال المقدسيين، فقامت إحدى النساء الفلسطينيات بإهدائها مزهرية استوحى الأخوان رحباني منها قصيدة «القدس العتيقة» التي صدحت بها فيروز «مريت بالشوارع/شوارع القدس العتيقة/قدام الدكاكين/البقيت من فلسطين/حكينا سوى الخبرية وعطيوني مزهرية /قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين). حملت فيروز المدن الفلسطينية الحزينة القدس ويافا وبيسان في صوتها الهادر، لتصرخ في وجه عالم لا مبال و لتصبح سفيرة «زهرة المدائن». غنّت بأمل لـ«المنزرعين بمنازلهم» من شعر الأخوين رحباني، «سنرجع يوما»، «جسر العودة»، «يا ربوع بلادي»، «راجعون»، «أحترف الحزن والانتظار»، «بيسان» و«يافا /أذكر يوما كنت بيافا»، «القدس العتيقة» و«زهرة المدائن». كما غنّت «سيف فليشهر» لسعيد عقل، و«وحدن ببقوا مثل زهر البيلسان» لطلال حيدر، و«مع الغرباء» لهارون هاشم رشيد، و«داري» و«ابنة بلادي» للشاعر عبد الكريم كرمي الملقّب بـ«أبي سلمى».
سنرجع يوما
بسبب موهبة وإبداع الأخوين رحباني في كتابة شعر يعبّر بصدق عن النكبة والأرض الفلسطينية، لا يمكن التمييز بين قصائدهما وقصائد الشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا النكبة وكتبوها. من هنا وقع التباس وخلط لدى الكثير من الكتاب والدارسين في نسب قصيدة «سنرجع يوما « للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد (1927) بينما هي من تأليف الأخوين رحباني عاصي ومنصور ــ وقعت في الخطأ نفسه في مقابلة أجريتها مع الشاعر هارون هاشم رشيد في بيته في القاهرة (إيلاف 2008/4/30) ــ لكن بعد الفحص والتمحيص تبيّن لي أنّها للأخوين رحباني وهي لم ترد أصلا في ديوان رشيد أو أي ديوان يحمل اسمه. هذه القصيدة التي تستشرف العودة على لسان العندليب .. «سنرجع خبّرني العندليب/غداة التقينا على منحنى/بأنّ البلابل لمّا تزل/هناك تعيش بأشعارنا»، وتختتم القصيدة بالتأكيد على العودة «تعال سنرجع هيا بنا».
كذلك حدث العكس، حيث تم نسب قصيدة هارون رشيد «مع الغرباء» للأخوين رحباني، التي يقول فيها على لسان ليلى اليافية «أبي…/قل لي بحقّ الله هل نأتي إلى» يافا»؟ / فإنّ خيالها المحبوب / في عينيّ قد طافا / أندخلها أعزاء / برغم الدهر.. أشرافا؟». والتي نشرت في مجلة «الأديب» البيروتية، ثمّ قرئت في إذاعة القدس من قبل المذيع إبراهيم السّمان. بعده لحّنها الأخوان رحباني وغنّتها فيروز.
فيروز وشعراء فلسطين
غنّت فيروز من اختيار ذائقة الأخوين رحباني الشعرية عدة قصائد لشعراء فلسطينيين، بخلاف «مع الغرباء» لهارون هاشم رشيد عام 1957، كما غنّت للشاعر عبد الكريم الكرمي (1909-1980) أبياتا من قصيدة «داري» التي يقول فيها رامزا لفلسطين: «هل تسألين النجم عن داري/ وأين أحبابي وسمّاري/داري التي أغفت على ربوة/ حالمة بالمجد والغار». وقصيدة «ابنة بلادي» التي يقول فيها «أين الشذا والحلم المزهر/أهكذا حبك يا أسمر/أهكذا تذوي أزاهيرنا/ ..وكان منها المسك والعنبر». طوباك في ألقك أيّها القمر المسافر في قلوبنا، سيبقى صوتك بسمة وراء غيوم الحزن التي تظلّل شرقنا المصلوب يوميا، وستبقى أغانيك مشجبا نعلّق عليه همومنا وصدى لكلماتنا التي نبحث عنها ولم تكتمل حروفها بعد. وسنردّد ما قاله الشاعر سعيد عقل في قصيدة «مرّ بي» .. «أجمل التاريخ كان غدا».
نقلا عن القدس العربي
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى