كتابات خاصة

هل تشيع الشافعي؟

هو سؤال لطالما دار بذهني أثناء قراءاتي لبعض آرائه الفقهية، والمقصود بالتشيع هنا ليس ذاك الذي عند المذاهب الشيعية، وإنما هو تشيع مخفف يمكن أن نسميه “التشيع السني”!!

آراء تفرد بها الشافعي وخالف بها من قبله جعلتني أضع ذلك السؤال، ففي خمس الفيء مثلاً يقول ابن المنذر: “ولا تحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفيء خمس، كخمس الغنيمة”( ). ويقول ابن رشد: “وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي”( ). بينما كان الفقهاء قبله يرون أن ذلك عائد على ولي الأمر يصرفه في مصالح المسلمين، جاء الشافعي وخالف ذلك ورأى أن يقسم الفيء كما الغنيمة وتوزع بنفس الطريقة، ولكن هل كان تقسيمه للغنيمة كما قسمها من قبله؟ لم يكن كذلك بالطبع، فقد أعادوه لولي الأمر ليوزعه إما على اليتامى والمساكين وابن السبيل أو في مصالح المسلمين فخالف في ذلك الشافعي وخمسها: وجعل خمس الخمس في ورثة بني هاشم فقيرهم وغنيهم.

مسألة أخرى تفرد بها الشافعي وسمي تفرده حينها شذوذاً، وهي مسألة إيجاب الصلاة على النبي في الصلاة، يقول القاضي عياض: “حكى الإمامان أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي في التشهد غير واجبة، وشذ الشافعي في ذلك، فقال: من لم يصل على النبي من بعد التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلَف له في هذا القول ولا سنة يتبعها. وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه لمخالفته فيها من تقدمه جماعةُ، وشنعوا عليه الخلاف فيها، منهم الطبري، والقشيري، وغير واحد( ).

وقال أيضاً: “قال الخطابي: وليست بواجبة في الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوةً. والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي، وإجماعهم عليه. وقد شنع الناس عليه في هذه المسألة جداً”( ).

واستدلال الشافعي على إيجابها كان ضعيفاً جداً، إذ استدل بعموم آية الصلاة على النبي ورواية فيها شخص متهم بالتشيع!!

يقول ابن حجر العسقلاني: “وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه:

أحدها: ضعف إبراهيم بن أبي يحيى والكلام فيه مشهور.

الثاني: على تقدير صحته فقوله في الأول يعني في الصلاة لم يصرح بالقائل يعني.

الثالث: قوله في الثاني انه كان يقول في الصلاة وإن كان ظاهره أنها الصلاة المكتوبة، لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصلاة أي في صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوي لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة كما تقدم تدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها.

الرابع: ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصا بينه وبين السلام من الصلاة”( ).

أما إبراهيم بن أبي يحيى والذي جاء في سند تلك الروايات التي استدل بها الشافعي فمجروح وفيه كلام كثير واتهامات كثيرة! فقد وصفوه بأوصاف الكذب والنكرة والوضع والتشيع( ) والتدليس، وصار مشهورا بذلك، فكيف روى عنه الشافعي واستدل بروايته؟

في التاريخ كان هناك واحد من أبرز رجال الجرح والتعديل اسمه “يحيى بن معين”، ينسب إلى هذه الرجل وإلى رجل آخر يماثله في الجرح والتعديل وهو “أبو عبيد القاسم بن سلام” أنهما كانا يتهما الشافعي بالتشيع!

يذكر البيهقي في كتابه “مناقب الشافعي” أنه: “قيل لأحمد: يا أبا عبد الله، فإن يحيى بن معين، وأبا عبيد لا يرضيانه -أي الشافعي-، يعني في نسبتهما إياه إلى التشيع. فقال أحمد: ما ندري ما يقولان. والله ما رأينا منه إلا خيرا. ثم قال أحمد لمن حوله: اعلموا رحمكم الله، أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئا من العلم وحُرِمَه قرناؤه وأشكاله حسدوه فرموه بما ليس فيه. وبئست الخصلة في أهل العلم!

قلت -أي البيهقي-: قد ذكرنا فيما مضى مناظرة أحمد مع يحيى بن معين حين نسب الشافعي إلى التشيع باحتجاجه في قتال أهل البغي بفعل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وجواب أحمد عنه”( ).

يحكي البيقهي سبب اتهام ابن معين له بالتشيع فيقول: “ومما حكى عن أبي داود السجستاني أن «أحمد بن حنبل» أُخبِر أن «يحيى بن معين» ينسب «الشافعي» إلى التشيع، فقال له أحمد: تقول هذا لإمام من أئمة المسلمين؟

فقال يحيى: إني نظرت في «كتابه في قتال أهل البغي» فإذا قد احتج من أوله إلى آخره بعلي بن أبي طالب.

فقال أحمد بن حنبل: عجباً لك! فبمن كان يحتج الشافعي في قتال أهل البغي، وأول من ابتلي من هذه الأمة بقتال أهل البغي علي بن أبي طالب؟ وهو الذي سنَّ قتالهم وأحكامهم. ليس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء وغيره – فيه سنة، فبمن كان يَسْتَنُّ؟ فخجل يحيى من ذلك”( ).

هذا الموقف من ابن معين جعله لا يأخذ برأي الشافعي واجتهاداته، فقد ورد في كتاب “سؤالات ابن الجنيد”:

“قلت ليحيى بن معين: ترى أن ينظر الرجل في شيء من الرأي؟ فقال: «أي رأي؟»، قلت: رأي الشافعي وأبي حنيفة، فقال: «ما أرى لمسلم أن ينظر في رأي الشافعي، ينظر في رأي أبي حنيفة أحب إلي من أن ينظر في رأي الشافعي»”( ).

جاء الذهبي في القرن الثامن الهجري فقال: “من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر لا يدري ما يقول”( ). قال هذا بعد نقله لما قاله ابن معين وأبو عبيد!!

والمسألة لا تخرج عن واحدة من اثنتين:

إما أن تلك التهم مما يجري بين الأقران من التحاسد، وهذا كثير في تراثنا، وقد ضرب السبكي لذلك كثيراً من الأمثلة.

أو أن الشافعي كان متشيعاً ولكن ليس بطريقة المذاهب الشيعية حينها وإنما بطريقة اجتهادية داخل إطار مذهب السنة وهذا كان يعد غريباً عندهم، لأنهم ينظرون للتشيع كبدعة!

فإن كانت النتيجة الأولى فهذه علة كبيرة في علم الجرح والتعديل، إذ كيف يكون أحد أهم رجالات الجرح والتعديل واقع في هذه الإشكالية التي تخرم شهادته؟ فإذا كان هذا حاله فكيف بمن دونه؟! هذا بالإضافة لاختلالات كثيرة داخل ما يسمى “علم الجرح والتعديل”.

وإن كانت الثانية “تشيع الشافعي” فهذه مثلمة وعلة قادحة في روايته، لأن المتهم بالتشيع حينها كان غير موثوق، لأن التشيع أحد أهم دواعي الوضع في الرواية المؤيدة للعقيدة الشيعية، وهذه العلة تجعل صاحبها غير موثق، وستعم هذه العلة أيضاً الاجتهادات الفقهية المتعلقة بنفس الموضوع.

لهذا الموضوع أبعاد أخرى أهم لا يكفي لها هذا المقام، ومجالها البحث الأصولي المفصل، منها: هل تشيعُ الشافعي قاده للقول بحجية خبر الواحد؟ أم حجية خبر الواحد قاده للتشيع؟ وعلى كل واحد من تلك الأسئلة يبنى الكثير..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى