آراء ومواقف

سبتمبر الرمز

مصطفى ناجي

ما من شك أن الحرب الجارية في اليمن تدور حول الرمز قبل أن تكون مرتكزة على علاقات القوة المادية. وهي حرب على الرغم من أبعادها المتعددة ومستوياتها المتنوعة التي يصعب ايجازها وتبسيطها إلا أنها تقوم على ثنائية رمزية شديدة الوضوح هي سبتمبر الجمهورية والنور وسبتمبر الكذوب الظلامي والكهنوتي.

ولو لم يكن للرمز من سلطة لما اختار أماميو العصر بنزعة ثأرية شهر سبتمبر لمحو سبتمبر الجمهورية. انقضوا على ثورة اليمنيين كل اليمنيين في 21 سبتمبر مستعجلين أمرهم ليقيموا حفلتهم الشيطانية الخاصة بهم وبمعاونة سرّاق الشرف الجمهوري العظيم.

ها هم اليوم يستولون على جغرافيا ثمينة ويحبسون شعباً لا أطيب منه (حد السذاجة وإلا لما قَبِلَ بدجلهم) ويسيطرون على الموارد والإعلام لكنهم عاجزون عن جعل حفلتهم حفلة للجميع أو تكريس رمزهم ليكن رمزاً وطنياً.

هم يقدّسون أزلاماً والشعب يقدَس الفكرة. هم يدعون الناس إلى الولوج من باب العبودية والتزلم، والشعب يدعوهم إلى اكتشاف مسرح الحرية. ينادون بحيا على شر الأمس ويناديهم الشعب بحيا على خير الغد.

مضت خمسة أيام منذ أن عبأوا المجتمع قسراً ليحتفي بكذبتهم واكتشفوا انهم إنما يحتفون بخيبتهم ويلعنون خطواتهم ويكرسون عزلتهم المختارة ورفضهم لأنفسم وللناس.

ثم هلّ يوم 26 سبتمبر لتلهج به الألسن وتقدسه الضمائر دون تعبئة ولا قسر ولا عصبوية سوى الانحياز لقيم الخير والجمال في هذا اليوم، لقيم النور والضياء، لقيم العدالة الاجتماعية والمساواة، للتنوير والطبابة، والحياة.

لم يكن سبتمبرنا كاملاً، وهذه هي طبيعة الأشياء الكبيرة التي لا تأتي ناجزة لأنها معجونة من أحلام وتطلعات العامة ولأنها تروم الغد المتبدّل غير المتوقع. كما أن سبتمبر ثنية في التاريخ المعوج لألف عام وثقيف لرمح متطاول انحرف عن المجد وأركن في زاوية مظلمة.

سبتمبر هو ثورة كل جيل. على كل جيل ان يسهم فيها بطريقته وبما يكتسبه من قيم الخير والجمال المتعاظمة والمتحولة والمتجددة وإلا ما حق لنا ان نتملكه إذا كان ناجزاً كاملاً.

أكثر النقد الموجه لسبتمبر هو انه لم يقض على حياة الأمس المظلم وشخوصه. هل علينا ان نعتبر كرم وشيم اخلاق وتسامح الآباء خطأ؟

لقد وضع الإباء لبنة أولى وربما ثانية وثالثة في مسيرة التحرر والتنوير. فماذا فعل اللاحقون؟

باختصار، بعض المتشدقين بسبتمبر انقلبوا على اعقابهم لا اقل ولا أكثر فباعوا جمهوريتنا بثمن بخس إلى سائس الأمس.

منذ 2011 وثورتي سبتمبر واكتوبر تتحولان من برتوكول إدارة عامة وسلوك بيروقراطي أجوف الى إحساس شعبي. منذ هذا التاريخ والناس تراجع هاتين الثورتين. فاختلطت الأصوات وكان بعض النكوص. لكن للشعب حدس فائق. فكلما اقتدنا في الظلام أكثر، اشتدت حاجتنا إلى النور وتلمسنا جدار الممشى نحو النور ووضعنا يدنا على مشكاة سراج سبتمبر. هذه حقيقة الاحتفاء بهذه المناسبة.

يتوهم الأئمة الجدد انهم قد قضوا على سبتمبر فيكتشفوا انهم أيقظوا التنين الراقد. ثم يحاولوا سرقة سبتمبر فتفضحهم خطواتهم الكاذبة.

وكذلك الأمر مع أكتوبر. وسيكون لنا موعد للحديث عنه.

أن أخير ما في 26 سبتمبر هو تقديمه لنموذج الانعتاق، والانفراج بعد الضيق، وايمان الشعب بقدرته لا بتخاذل وحسابات القوى السياسية المحلية والإقليمية، وبقدرته على اجتراح المعجزات.

حالنا اليوم لا يختلف عن الستينيات من حيث الجوهر: تيه وضلال، مشاريع متعدد، وصديق في مرآة العدو، وقوى دولية وإقليمية في مفترق طرق واهواء متبدلة لا يمكن الركون عليها كثيراً.

أو كما يوجز الأمر البردوني:

والصداقات كالعداوات تؤذي/ فسواء من تصطفي أو تعادي

لكن سبتمبر هو تميمتنا وترنيمتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى