كتابات خاصة

كلمة في ذكرى الكرامة..”شهادة حية”

لا شيء أرفع قدرًا من الكرامة، إنها القيمة المركزية لهذا المخلوق الذي يدعى “إنسان” هي ما يفصله عن بقية الكائنات ويمنح وجوده مكانة فارقة، الكرامة وما بدونها يفقد الإنسان إنسانيته. وفي تاريخ اليمن، يوم الكرامة معمد بالدم ويا لها من شهادة تثبت قداسة التضحيات ومستوى البطولة التي قدمها اليمني لتأكيد انسانيته.

في مثل هذا اليوم الـ 18 – مارس – 2011م استشهد شقيقي محمد وستة من أعز زملائي واصدقائي (علي الفلاحي – علوي الشاهري – عوض اليافعي – مجاهد القاضي – خالد الحزمي – عرفات الحمزة) وجرح شقيقي الاصغر حسين وأكثر من 10 من اعز رفاقي واصدقائي منهم اخي الغالي سياف احمد الذي لم افترق عنه.

كنت دائمًا برفقة “سياف” ما عدا جمعة الكرامة. لقد شاهده صديقي عوض القطيبي جريحاً محمول على الاكتاف لم استطع اللحاق بهم فعدت لأجري نحو الجدار اما سياف فقد سبقني ولم استطيع اللحاق به لكني وبعد نصف ساعه شاهدتهم يحملوه وهو جريح ايضاً لم اتحمل الموقف فقد وجدت اخي محمد حين وصلت عند الجدار مصاباً وحين حاولت اسعافه منعني وهو يصرخ بوجهي انا بخير سير اسعف حسين عنه اصيب قبلي فتركت الشباب ليسعفوا محمد وذهبت ابحث عن حسين واثناء بحثي عنه اصيب شخص امامي برصاصة قناص هرعت اليه فصدمت حين رأيت وجهه بأنه أخي وصديقي علوي الشاهري فحاولت إسعافه لكنه للأسف فارق الحياة مباشرة وهو بين يدي، تسمرت أشاهده وهو يموت ولم استطع النهوض من مكاني لعدة دقائق أما “علوي” فأخذه الشباب وأنا اشاهدهم ولم اتحرك وكأني أشاهد فيلم على شاشة التلفزيون لا مجزرة مروعة شاهدتها بأم عيني.

لم تكن جمعة الكرامة مجرد حدث عابر بحياتي ولا مشهد حي لجريمة مروعة، بل كانت واقعة هزت كياني وأعادت صياغة نظرتي للحياة بشكل مختلف، وربما لا أبالغ لو قلت: إن الأثر النفسي لهذا الحدث ما يزال يعشعش بداخلي حتى اليوم. أقول هذا الكلام، لمن يطالبونا بنسيان الثورة وكأننا خرجنا للتنزه ولم يحدث كل ما حدث. وما تزال نفوسنا مليئة بالندوب حتى يومنا هذا.

نصف ساعة في جمعة الكرامة كانت كالجحيم بالنسبة لي -وأجزم أنها كذلك لكثيرين وعشرات العائلات التي فقدت قريباً فيها والآلاف الذين تواجدوا يومها- ولم أتحمل ما عشته فيها فقط اكتفيت بالبكاء وأنا جالس وسط الشارع حيث أصيب علوي ومن ثم استجمعت نفسي وذهبت نحو الجدار لمواصلة ما بدأه اخي محمد وسياف وعلوي وحسين وعوض في هدم ذلك الجدار ولم اتذكر شقيقاي محمد وحسين وعلوي الشاهري وسياف إلا بعد تجاوزنا الجدار ومطاردتنا للقتلة التي انتهت بإمساكنا لبعضهم.

وفي الساعة 4 عصراً تقريباً اخذت نفسي واتجهت نحو المستشفى الميداني وفي طريق المستشفى وجدت امي تتلفت وهي تمشي بهلع اقتربت منها ومجرد أن رأتني أخذت تسألني: أين محمد أخوك فقلت لها لا تقلقي محمد بخير نعم فقد شاهدته وكان قوياً وبكامل وعيه واعتقدت حينها أن اصابته خفيفة ولم أعلم حينها أنها خطيرة.

ومن ثم سألتها: من اين عرفتي ان محمد أصيب. فقالت: لاتكذب علي قد شاهدته بقناة الجزيرة وهم يعالجوه والرصاصة في صدره تفاجأت بكلامها ومن ثم اخذت بيدها وذهبنا نحو مسجد الجامعة الذي تم وضع الشهداء فيه ومجرد أن وصلنا اخذت اريها الشهيد تلو الاخر لكي اطمئنها ان محمد ليس بينهم واثناء ماكنت أريها الشهداء تفاجأت بأخي وزميلي بدار القران علي الفلاحي شهيداً وبجانبه خالد الحزمي رفيق الثورة منذ الوهلة الاولى وهنالك في الوسط عوض القطيبي (اليافعي) الشاب المفعم بالحيوية والنشاط الذي ترك جنسيته الامريكية وراءه لكي يشارك معنا في ثورة فبراير فكان أحد شهداءها وعلى مقربةٍ منه عرفات الحمزة الشاب النبيل ابن محافظتي ورفيق النضال ينام شهيداً وهو مبتسم.

لم اتحمل المشهد فانهارت قواي واخذت ابكي وسط المسجد ونسيت ان امي بجانبي، التي نسيت هلعها على محمد واخذت تطبطب علي وتواسيني وتبكي معي، بكيت لحرقه ليس حزناً على اخي واصدقائي الذين استشهدوا بقدر ماكان تحسراً وقهرا على نفسي ان الله لم يصطفيني معهم، ولم أفق من صدمتي إلا بعد ساعات حينها سألتهم عن شقيقي محمد فاخبروني أنه مفقود.

وفي صباح اليوم التالي ذهب أخي عادل برفقة امي التي لم تغمض لها عين تلك الليلة فبحثوا في كشف اسماء الشهداء وفي ثلاجة الموتى بمستشفى العلوم فلم يجدوا له اثر ومن ثم ذهبوا وبحثوا في جميع المستشفيات ولم يجدوه وفي نفس اليوم اتصل بي الوالد قبل الظهر  ليخبرني انه علم من احد اصدقائه ان هناك جرحى معتقلين فاستخدم كلٌ منا علاقاته وبحثنا في كل الاقسام والمستشفيات العسكرية والاستخبارات والأمن القومي فلم نجد له أثر وكان الارض انشقت وبلعته.

يومان ونحن في حالة هلع واستنفار نبحث عن محمد في كل مكان دون جدوى وفي يوم الاحد 20 مارس (2011) أتى إلي ابن عمي الساعة الثانية ظهراً وبيده قائمة اسماء الشهداء واخذ يشير لي إلى اسم في القائمة: يامجاهد شوف هذا الاسم (محمد احمد مثنى). وأكمل كلامه “أنا متأكد انهم اخطأوا في كتابة اسمه، فذهبت برفقته إلى مستشفى العلوم والتكنولوجيا وأن ادعوا بصمت يا رب ما يكون محمد وحين وصلنا قابلنا الشخص المعني شرحنا له التفاصيل فأخذنا إلى ثلاجة المستشفى وفتح لي باب الثلاجة الذي يحمل الاسم فاقتربت منه لأشاهد محمد اخي وهو مغطاً بسجادته (كان قد اسعف الى المستشفى الميداني ولايزال بوعيه فسألوه عن اسمه فاخبرهم (محمد قرموش احمد مثنى) لم يفهم الممرض اسم “قرموش” فكتب محمد احمد مثنى ومن ثم نقلوه الى مستشفى العلوم بهذا الاسم دخل العمليات فحاول الاطباء انقاذه لكن دون جدوى ليفارق الحياة الساعة الرابعة عصراً في نفس اليوم نتيجة النزيف الداخلي.

عندما شاهدت محمد لم اتحمل الموقف فخارت قواي وارتميت من قامتي على الارض حاولت النهوض واثناء محاولتي شاهدت اخي وصديقي وابن قبيلتي علوي الشاهري الذي فارق الحياة وهو بين يدي موضوعاً على أرضية الثلاجة نتيجة امتلاءها بالشهداء ففقدت وعيي حينها ولم اصحوا إلا حين رشني مسؤول الثلاجة بالماء فاستجمعت قواي وخرجت من المستشفى ومن ثم اتصلت بوالدي واخبرته بالأمر وبعد ساعه وصل ابي وحمد الله وكتم ألمه، أما أنا فلم اصحوا من هول الصدمة إلا بعد حوالي اسبوع تقريباً.

وداعًا يا رفاقي، وداعًا يا وقود الحلم، الأبطال الذين افتدوا حلمنا بدمهم، ما تزالون عالقين في أعماق الذاكرة، لا الزمن ولا المآسي اللاحقة ولا هموم الحياة أنستنا ذكراكم، لا نتذكركم في يوم رحيلكم كمناسبة روتينية، بل تلازمونا على امتداد أعمارنا، غادرتم دنيانا وبقى طيفكم حاضرا، كنتم في وجودكم جزء من كياننا وكينونتنا وصرتم بعد رحيلكم طيفًا وروحا تسكن في أعماقنا.

إن كان هناك من شيء أود قوله لكم اليوم، فهو تجديد عهدي بالمضي على دربكم، التمسك بحلمنا وحلمكم، هذه هي القضية التي نذرت حياتي لها، ولسوف أمضي للنهاية، لا شيء عندي أقدس من دمكم.. ولا مذاق للكرامة ما لم يمضي هدفكم للنهاية ولسوف نتخذ من ذكراكم وقودا يمنحنا العزيمة كي نواصل الدرب وفي الغد يزهر الحلم دولة وحياة وتظل ذكراكم حدث يقف له الجميع بجلالة ويمجدونكم للأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى