اقتصاد

كيف يبدو اقتصاد منطقة الشرق الأوسط والعالم في نهاية عام 2023؟

يمن مونيتور/القدس العربي

هو عام صعب بكل تأكيد هذا الذي نودعه، لكنه مع ذلك يحمل بارقة أمل إلى العام الجديد، قد تضع نهاية لآلام شعوب منطقة الشرق الأوسط، التي تتكاثر عليها المصائب والحروب، بينما هي أحوج ما تكون إلى فترة لالتقاط الأنفاس وإعادة توجيه المسار إلى طريق قد يحمل فرصا أكثر إشراقا، خصوصا للشعب الفلسطيني الذي طالت معاناته المتصلة لأكثر من قرن كامل من الزمان. وسوف نبدأ في رسم ملامح الصورة من المنطقة التي نعيش فيها، ثم نتأمل ما حولنا من ملامح على مستوى العالم.

الأشهر الأولى من العام أظهرت قدرا كبيرا من التفاؤل سواء على الصعيد الجيوسياسي باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وتقدم مفاوضات السلام في اليمن، وكذلك على الصعيد الاقتصادي بتراجع معدلات التضخم وأسعار الغذاء وعناصر تكلفة المعيشة، واستقرار أسعار الطاقة نسبيا، وتراجع ضغوط ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار. لكن الأشهر الأولى حملت معها أيضا جنين حرب انفجرت في غزة بعد أشهر من تفاقم الأعمال العدوانية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

وقد أدت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني إلى تغليب عوامل عدم اليقين وعدم الاستقرار اقتصاديا، وإبعاد فرص السلام التي كانت تقترب في بدايات العام. كما تحمل الحرب معها مخاطر الامتداد إلى جبهات أخرى في المنطقة أو على المستوى الإقليمي بشكل عام، وهو ما يظهر بصورة جلية مع اضطراب الملاحة في البحر الأحمر، وتدهور حركة السياحة والنقل، وتراجع إمدادات الطاقة بين مصر وإسرائيل والأردن. ومع استمرار الحرب في السودان، وفشل المبادرات الدبلوماسية لوضع نهاية لها، تستمر معاناة الشعب السوداني، كما يتعرض لبنان والأردن ومصر وتونس واليمن والعراق وسوريا وليبيا لتأثير ضغوط مزدوجة جيوسياسية وجيوقتصادية، تزيد من صعوبات وضغوط الحياة اليومية على المواطنين، خصوصا في الدول التي تعاني من أعباء مديونية ثقيلة وتدهور حاد في أسعار عملاتها المحلية مثل لبنان ومصر وتونس والسودان.

قياس الآثار الاقتصادية للحرب

في هذا السياق فإن حساسية المنطقة للتغيرات والضغوط الجيوسياسية تركت آثارها على الحياة الاقتصادية للأفراد والحكومات في المنطقة ككل، وظهر ذلك في تباين معدلات النمو، وزيادة حدة التفاوت، إلى جانب تراجع فرص السلام والاستقرار في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط. ويقدر البنك الدولي أن سوق العمل في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد خسرت ما يتراوح بين 3 ملايين إلى 5 ملايين مشتغل بسبب الصدمات البيئية والاقتصادية والجيوسياسية في السنوات الثلاث الأخيرة، ويتوقع أن تتعرض المنطقة لضغوط اقتصادية أكبر في العام المقبل.

وطبقا لتوقعات خبراء البنك الدولي، فإن مدى تأثير الحرب في الشرق الأوسط على أسعار النفط العالمية هو المتغير الأكبر الذي يترك آثارا واسعة النطاق على المنطقة والعالم. وتوقع الخبراء أن يتجلى ذلك من خلال واحد من ثلاثة سيناريوهات. الأول، يتمثل في حدوث نقص محدود في الإمدادات على غرار ما حدث عندما توقفت الإمدادات الليبية عام 2011. وفي هذا السيناريو من المرجح أن تنخفض الإمدادات من المنطقة بما يتراوح بين 500 ألف إلى 2 مليون برميل يوميا، وأن ترتفع الأسعار بنسب تتراوح بين 3 إلى 13 في المئة مقارنة بما كانت عليه في الربع الثالث من العام الحالي، بحيث تتراوح بين 93 دولارا إلى 102 دولارا للبرميل. أما السيناريو الثاني الذي افترضه خبراء البنك الدولي فإنه يتمثل في حدوث «انخفاض متوسط» في الإمدادات، على غرار ما حدث خلال حرب العراق 2003 بما يتراوح بين 3 إلى 5 ملايين برميل يوميا، وهو ما يمكن أن يرفع الأسعار إلى أكثر من 120 دولارا للبرميل. ويتمثل السيناريو الثالث في حدوث انخفاض حاد في الإمدادات على غرار ما حدث في فترة الحظر النفطي العربي عام 1973 بما يتراوح بين 6 إلى 8 ملايين برميل يوميا، وهو ما يمكن أن يقفز بأسعار النفط إلى ما يتراوح بين 140 إلى 157 دولارا للبرميل. ومن الناحية النظرية فقد استندت السيناريوهات الثلاثة إلى تجارب تاريخية. لكن اختلاف الظروف حاليا عما كانت عليه عام 1973 يضعف السيناريو الثالث إلى حد كبير، ولا يستبعد حدوث السيناريو الأول، وهو السيناريو الذي تحقق فعلا في أول أسبوعين من حرب غزة. وفي كل الأحوال فإن ارتفاع أسعار النفط وإن كان سيفيد الدول المصدرة، إلا أنه سيؤدي إلى أضرار شديدة لفرص النمو في الدول العربية المستوردة للنفط. كما أنه يمكن أن يجهض جهود كبح التضخم على المستوى العالمي.

أسعار الدولار

ونظرا لأن معظم الدول العربية تعتمد على الدولار الأمريكي في تسوية مدفوعاتها التجارية، وكذلك نظرا لأن النسبة الأعظم من ديونها مقومة بالدولار، فإن تحركات أسعار العملة الأمريكية تترك آثارا غير مباشرة واسعة النطاق على الدول العربية. وترتبط أسعار الدولار إلى حد كبير بالعوامل الجيوسياسية، كما أنها تتأثر بزيادة الطلب من جانب البنوك المركزية لدول الجنوب التي تحاول تعزيز قوة احتياطي العملات الدولية وتخفيف اعتمادها على الدولار. وقد ارتفعت أسعار الذهب منذ بدء حرب غزة بنسبة وصلت إلى 8 في المئة. لكن تجارة الذهب العالمية تتعرض حاليا لضغوط قوية من جانب سياسة أسعار الفائدة، التي يتبناها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ومع اتجاه المجلس إلى تخفيض أسعار الفائدة، فإن الذهب يزداد بريقا وترتفع أسعاره أكثر عن المستويات التي رأيناها في الأسابيع الأخيرة. ومع ذلك فإن الطلب على الذهب سيظل متقلبا تبعا لاتجاهات المتغيرات المؤثرة في قرارات الاحتياطي الفيدرالي مثل معدلات التضخم والبطالة والطلب الاستهلاكي.

تفاوت النمو الاقتصادي

وفي سياق استمرار الضغوط الجيوسياسية والاقتصادية فإن البنك الدولي يتوقع هبوطا حادا في معدل النمو نصيب الفرد من الناتج المحلي في منطقة الشرق الأوسط إلى أقل من نصف نقطة مئوية (0.4) بنهاية العام الحالي مقابل 4.3 في المئة في العام 2022. هذا الهبوط في معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يظهر عمليا في تدهور مستوى معيشة عشرات الملايين من السكان، وزيادة معدل الفقر، وانتشار البطالة بمعدلات أعلى، خصوصا بين الشباب. وعلى مستوى السياسات الحكومية فإن الهبوط الحاد في معدلات النمو يؤدي عمليا إلى إضافة تعقيدات في مواجهة السياسة الاقتصادية، وتقليل هامش المناورة للتغلب على الأزمات، خصوصا في الدول المدينة التي تخصص نسبة كبيرة من إنتاجها المحلي لغرض سداد أعباء الديون، كما هو الحال في مصر. ويقدر معدل النمو الاقتصادي المتوقع لدول الشرق الأوسط وأفريقيا للعام 2023 بحوالي 2 في المئة مقابل 5.6 في المئة في العام السابق، وأقل من متوسط معدل النمو العالمي الذي يقدر بنحو 3.8 في المئة.

وطبقا لصندوق النقد الدولي فإن الدول العربية لا تحتاج فقط إلى تدبير وفورات لزيادة معدل النمو، بل انها تحتاج أيضا إلى توفير إمكانات إضافية لتحقيق الصلابة والقدرة على التحمل فيما يتعلق بأزمات بالبيئة، وتحديات نمو قوة العمل، وضرورات توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية للمواطنين. وقد أظهرت بعض الأحداث التي مرت بها دول عربية في العام الحالي، مثل زلزال مراكش، وكارثة السيول في ليبيا، والجفاف وندرة المياه في العراق، أن بناء الصلابة والاستدامة والقدرة على التحمل الاقتصادي، هي قضايا عاجلة تحتاج إلى جدية كبيرة في مواجهتها. ويقدر الصندوق أن أزمة المناخ، والتقلبات البيئية الحادة أدت إلى إصابة منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا بأضرار كثيرة منها على سبيل المثال خسارة ما يقرب من 1.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب التدهور طويل الأمد في خصائص التربة والمياه والهواء.

الدول المصدرة للنفط

يقدر البنك الدولي متوسط معدل النمو المتوقع لدول مجلس التعاون الخليجي الست في العام بحوالي 1 في المئة فقط. ومن المرجح أن يرتفع بقوة في العام المقبل إلى 3.6 في المئة. أما طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي فمن المنتظر أن تحقق دول المجلس بنهاية العام الحالي زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقل عن واحد في المئة (0.8 في المئة) مقابل 4.3 في المئة عام 2022 أي ما يعادل أقل من خمس الزيادة السابقة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد السعودي في العام الحالي بمعدل ضئيل يبلغ 0.8 نقطة مئوية فقط، يرتفع في العام المقبل إلى 4 في المئة، وذلك طبقا للتقديرات في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. لكن الحكومة السعودية تتوقع تراجعا حادا في معدل النمو في نهاية العام الحالي إلى 0.3 في المئة، مقارنة بمعدل نمو مرتفع جدا بلغ 8.7 في المئة في العام الماضي. ويعود هذا التراجع الحاد إلى انخفاض النشاط في القطاع النفطي، حيث ان القطاع غير النفطي سيحقق نموا بنسبة 6 في المئة بنهاية العام الحالي. وفي دول الخليج الأخرى من المتوقع أن تتعرض الكويت لانكماش في الناتج بنسبة (- 0.6) في المئة، في حين ستحقق الدول الأخرى معدلات نمو موجبة تصل إلى 2.4 في المئة في قطر و 3.4 في المئة في الإمارات.

أما في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العربية المصدرة للنفط فمن المتوقع أن تتباين معدلات النمو بشدة، حيث أن ليبيا قد تحقق معدلا قويا للنمو يصل إلى 12.5 في المئة مقارنة بالعام السابق، ومن المتوقع أن تحقق الجزائر معدل نمو يقدر بنحو 3.8 في المئة. لكن العراق سيتعرض للانكماش بنسبة (-2.7 في المئة). أما بالنسبة للدول العربية النامية المستوردة للنفط فمن المتوقع أن تحقق بنهاية العام الحالي نموا بمعدل يصل إلى 3.6 في المئة مقابل 4.9 في المئة في العام الماضي، طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أي قبل انفجار الحرب في غزة. ومن الصعب حاليا تقدير الأثر الاقتصادي النهائي على النمو في فلسطين (الضفة وغزة والقدس الشرقية) والأردن ومصر ولبنان واليمن. وكانت التقديرات الأولية تشير إلى نمو بمعدل 3 في المئة في فلسطين، و 4.2 في المئة في مصر، و2.6 في المئة في الأردن، و2.4 في المئة في المغرب، و4.5 في المئة في موريتانيا وانكماش بنسبة (- 0.5 في المئة) في اليمن. لكن الصندوق يعيد الآن تقدير توقعاته للنمو على ضوء تأثير حرب غزة. وبسبب فشل الدولة وتدهور الوضع الأمني سيكون السودان أشد الدول العربية تدهورا من الناحية الاقتصادية بانكماش في حجم الإنتاج المحلي بنسبة (- 18.3 في المئة).

ملامح اقتصادية عالمية

في كلمتها أمام قمة رابطة دول آسيا والمحيط الهادئ في منتصف الشهر الماضي، قالت كريستالينا غورغييفا مدير صندوق الدولي إن الاقتصاد العالمي أظهر في عام 2023 قدرة كبيرة على التحمل بعد صدمتين كبيرتين هما جائحة كوفيد 19 وحرب أوكرانيا. لكن هذه القدرة على التحمل ترافقت مع ضعف في معدلات النمو وتباين توزيعه على خريطة العالم. ويتوقع الصندوق أن يسجل الاقتصاد العالمي نموا بمعدل 3 في المئة في العام الحالي والعام المقبل (بعد أخذ أثر تداعيات حرب غزة في الاعتبار). هذا المعدل يقل عن المتوسط العام للنمو في العقود الثلاثة الأخيرة الذي بلغ 3.8 في المئة، مع بقاء توقعات النمو في الأجل المتوسط متواضعة، واستمرار التباين داخل مجموعات الدول المختلفة. وتشير تقديرات النمو على مستوى العالم إلى أن مجموعة دول آسيا والمحيط الهادئ تسهم وحدها بما يصل إلى نصف معدل النمو في العالم، علما بأن الاقتصادات الرئيسية في العالم، باستثناء الولايات المتحدة، لم تتمكن حتى الآن من العودة إلى مستويات النمو التي حققتها قبل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا. وما تزال الولايات المتحدة والصين هما أهم محركات النمو في العالم، خصوصا مع عودة الولايات المتحدة إلى معدلات النمو السابقة لجائحة كورونا وحرب أوكرانيا، وتعافي الصين بقوة في الأشهر الأخيرة.

التنافس الأمريكي- الصيني

في العام 2023 لم تفقد الولايات المتحدة موقعها كأكبر اقتصاد في العالم، ولم يفقد الدولار الأمريكي مكانته كأهم عملات العالم وأوسعها انتشارا. وطبقا لبيانات نظام سويفت العالمي لتسوية مدفوعات المعاملات في الشهر الماضي، تقدم اليوان على الين الياباني إلى المركز الرابع في قائمة العملات الأكثر استخداما في تسوية المعاملات المالية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بنسبة 4.61 في المئة مقابل 47 في المئة للدولار و23 في المئة لليورو، و 7.15 في المئة للجنيه الاسترليني. ويتم استخدام الدولار واليورو في تسوية ما يقرب من ثلاثة أرباع المعاملات المالية الدولية. ومع ذلك فإن الصين تحقق تقدما سريعا في مجالات المنافسة مع الولايات المتحدة. وتمتلك الصين أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم، وهي في الوقت نفسه أكبر دولة مصدرة للسلع، وتسعى لتوسيع نطاق قوتها الاقتصادية عالميا باستخدام عدد من المبادرات والمؤسسات الجديدة المتعددة الأطراف أهمها مبادرة «الطوق والطريق» و«منظمة بكين للتعاون» ومجموعة «بريكس» الاقتصادية، التي تنتج حوالي 25 في المئة من الإنتاج المحلي الإجمالي للعالم. ومع توسيع المجموعة اعتبارا من العام المقبل فإن هذه النسبة ستزيد كثيرا، وربما تتجاوز نصيب مجموعة الدول السبع الصناعية من الإنتاج العالمي.

وعلى الصعيد النقدي فإن الصين قطعت شوطا طويلا في تطوير «اليوان الرقمي» ما يجعله عملة مقبولة للتداول عالميا دون الحاجة إلى عملة تحويل وسيطة، بشرط أن يتم تطوير نظم التسويات بين العملات الرقمية «سي بي دي سي» على مستوى العالم. ويجري تطوير نظام من هذا النوع بين عدد من الدول منها الإمارات العربية والصين وتايلاند وهونغ كونغ بمشاركة بنك التسويات الدولية. ويتوقع البنك أن يزيد استخدام العملات الرقمية بنسبة 260 ألف في المئة خلال الفترة من عام 2023 إلى عام 2030 أي بمعدل زيادة شهري يصل إلى 2700 في المئة. ومن ثم فإن الامتحان الحقيقي للدولار الأمريكي سيكون في مجال التسويات بالعملات الرقمية، وليس بطرق المقاصة التقليدية. وما يزال الدولار وراء اليوان الصيني بكثير في هذا المجال.

وبالنسبة للنمو فإن صندوق النقد الدولي أعلن في الشهر الماضي رفع تقديراته للنمو في الصين بنهاية عام 2023 إلى 5.4 في المئة من التقدير السابق الذي كان 5 في المئة فقط.

وبالنسبة للولايات المتحدة تشير التوقعات إلى معدل نمو يبلغ 2.4 في المئة، أي أقل من نصف معدل النمو في الصين. ومن المتوقع أن يعود الاقتصاد الأمريكي إلى التباطؤ في العام المقبل ليحقق نموا بنسبة 1.7 في المئة فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى