اخترنا لكمكتابات خاصة

الدولة المدنية ومقاصد التشريع (3)

الجزء الأول 

الجزء الثاني

مدرسة أخرى في المقاصد:

تدور أغلب الدراسات المقاصدية المعاصرة على ما طرحه الشاطبي فهو – عند غالبية الدارسين  – مؤسس هذا العلم وباني أركانه، ففي كتابه (الموافقات) توسع في دراسة المقاصد وأقسامها ومراتبها وكلياتها، ورغم صحة ذلك إلى حد كبير إلا أن هناك مدرسة أخرى قامت بنفس الجهد، وربما بطريقة أحكم وأكثر اتساقاً، ولكنها لم تأخذ حظها في الكتابات المعاصرة وهي مدرسة العز بن عبدالسلام، ورغم استشهاد المعاصرين بكلامه كثيرا في قوانين الموازنة بين المصالح والمفاسد إلا أنهم لم يعتبروه مدرسة خاصة في المقاصد، رغم أنه رؤيته المقاصدية أكثر قرباً من مدرسة المؤسس الأول الجويني.

يتوقف العز بن عبد السلام عند قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل 90]، ويجعل من هذه الآية قطب الرحى في المصالح والمفاسد، وهو ذات المسلك الذي سيسلكه من بعده الأصولي المقاصدي نجم الدين الطوفي (ت 716هـ) والذي سيصل بنظريته المصلحة إلى أبعد مدى، وما كتبه هذان الفقهان هو – برأيي – أكثر ما يناسبنا اليوم في البناء عليه لنظرية المصلحة، بحيث تصير أكثر احتواء للأحكام التفصيلية في التشريع.

وما نود أن نركز عليه في هذا المقام هو رؤية العز بن عبد السلام في الكليات الخمس التي تسمى المقاصد، فمن يتتبع أقواله فيها يجد أنه يذكر حفظ العرض ولا يذكر حفظ الدين في أكثر من عشرة مواضع في كتابه، ومن كلامه في ذلك قوله: “واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع، على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض “( 1)، وفي هذا إشارة للكليات الأربع وهي: النفس والنسل والمال والعرض. وقوله:  “والمفاسد ضربان: أحدها؛ ما يثاب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال”( 2). وكذا قوله: “لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع وسائر الحقوق أهم وأعظم” فلم يذكر الأديان في هذين النصين وغيرهما.. وقوله: “لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع والأنساب وسائر الحقوق أعم وأعظم”( 3). وقوله: “فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض”(4 ). وقوله: “وقد حرم الله أخذ الأموال إلا بأسباب نصبها، ومعظمها حقوق تتعلق بالدماء والأبضاع والأعراض والأموال”(5 ). وقوله: “…لانتهكت حرمة الأبضاع والدماء والأعراض والأموال”( 6).

وعدم ذكر العز لكلية حفظ الدين ضمن تلك الكليات لا يعني أنه لم يتكلم عنه في عدة مواضع من كتابه، مقارناً بينها وبين بقية الكليات، ولكن للعز تقسيما آخر أشمل، وهو تقسيم الحقوق إلى قسمين: حقوق الله وحقوق العباد، وما يتعلق بالدين من طاعة وإيمان وكفر وعصيان ويدخل ضمن حقوق الله، أما ما يتعلق بالمصالح والمفاسد ودرجاتها ومراتبها وكلياتها فتتعلق بحقوق العباد، وفصله الكليات الأربع أو الثلاث وإدراجها ضمن حقوق العباد هو الأقرب في تسميته بمقاصد التشريع، وهو الأدق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، والأبعد عن التناقضات التي وقع فيها من أرج حفظ الدين ضمن مقاصد التشريع دون تفصيل لما حق لله وحق للعباد.

فهو يعتبر الدين من حقوق الله، وبقية الكليات من حقوق العباد، وهذا يرجع إلى تقسيم الجويني كما ذكرت من قبل.

يقول العز في نص بديع يفرَّق فيه بين حقوق الله وحقوق العباد، وأقسام كل نوع منهما: «قاعدة في بيان الحقوق الخالصة والمركبة.. جلب المصالح ودرء المفاسد ضربان:

الضرب الأول: ما يتعلق بحقوق الخالق كالطاعة والإيمان، وترك الكفر والعصيان وحقوق الله ثلاثة أقسام:

أحدها: ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبما تضمنته الشرائع من الأحكام، وبالحشر والنشر والثواب والعقاب.

الثاني: ما يتركب من حقوق الله وحقوق عباده، كالزكاة والصدقات والكفارات والأموال المندوبات، والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف، فهذه قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه، والغرض الأظهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك، أو ندب إليه، فإنه قربة لباذليه ورفق لآخذيه.

الثالث: ما يتركب من حقوق الله وحقوق رسوله – صلى الله عليه وسلم – وحقوق المكلف والعباد، أو يشتمل على الحقوق الثلاثة..

الضرب الثاني: فيما يتعلق بحقوق المخلوقين من جلب مصالح ودرء مفاسد وهو ثلاثة أقسام:

أحدها: حقوق المكلف على نفسه كتقديمه نفسه بالكساء والمساكن والنفقات، وكذلك حقوقه في النوم والإفطار، وترك الترهب.

الثاني: حقوق بعض المكلفين على بعض، وضابطها جلب كل مصلحة واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهي منقسمة إلى فرض عين وفرض كفاية، وسنة عين وسنة كفاية، ومنها ما اختلف في وجوبه وندبه في كونه فرض كفاية أو فرض عين.

والشريعة طافحة بذلك ويدل على ذلك جميعاً قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها. والآيات الآمرة بالإصلاح والزاجرة عن الإفساد كثيرة، وهي مشتملة على الأمر المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، وعن النهي على الإفساد المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده»(7).

أما أهمية هذا التقسيم ودقته فتظهر فيما أشار إليه الآمدي في قسم التعارض والترجيح في معرض مناقشته مسألة تزاحم هذه الكليات فيما بينها أيهما يقدم الدين وهو حق الله، أم تقدم بقية الكليات التي تتعلق بحقوق العباد، وأن للعلماء في ذلك تصوران، تصور يرى فيه أصحابه تقديم الدين على بقية الكليات وتصور ثان يرى أصحابه تقديم بقية الكليات على كلية الدين بناء على أن حقوق العباد مقدمة على حقوق الله؛ لأنها مبنية على المشاحة أما حقوق الله، فهي مبنية على المسامحة، وهذا دليل على وجود هذا التصنيف عند المتقدمين قبل العز بن عبد السلام وقد كان محل نقاش بينهم وقد ذكره ابن الحاجب في مختصره، وابن النجار في شرحه دون نسبته لأحد من العلماء.

وهو ما سار عليه، غير واحد من الأصوليين، كالسرخسي الحنفي الذي فرق بين الحدود المتعلقة بحقوق الله وحقوق العباد، فقال: “وأصل الكفر من أعظم الجنايات، ولكنها بين العبد وربه، فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء”(8)؛ ويقصد بذلك الأديان، ثم يضيف مبينا ما تعلق بحق العباد فقال: “وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد، كالقصاص لصيانة النفوس، وحد الزنا لصيانة الأنساب والفرش، وحد السرقة لصيانة الأموال، وحد القذف لصيانة الأعراض، وحد الخمر لصيانة العقول”(9).

وهذا الكلام للسرخسي يؤكد على فلسفة الإسلام في العقوبات، فما يتعلق بحق الناس والمجتمع فهو جريمة لا بد من ردعها بعقوبات عاجلة في الدنيا، ليأمن الناس على حقوقهم وأنفسهم، وما كان يتعلق بحق الله، فهو ذنب تؤجل عقوبته ليوم الحساب. فالسرقة والزنا والحرابة جرائم اجتماعية تهدد حياة الناس ومصالحهم في الدنيا، ولهذا وجب تحديد عقوبات دنيوية عاجلة ورادعة لمقترفيها، أما مسألة الارتداد عن الدين الحق فهي ذنب في حق الله، وقد شاءت حكمة الله أن يترك للمرتد فرصة في الدنيا كافية لمراجعة نفسه وتصحيح خطئه، فربما عاد إلى الإيمان بعد أن يتبين له أنه الحق.

كما يبنى على هذا الكلام أيضا أنه ليس من وظائف الدولة إلزام الناس بعقيدة بعينها وإلزامهم بالشعائر التعبدية باعتبار ذلك عند بعضهم تحقيقا لمقصد حفظ الدين، لأنها إن فعلت ذلك فقد أرغمت الناس على عقيدة ربما لم يقتنعوا بها فيتحولوا لمنافقين وكاذبين، وإنما وظيفة الدولة حماية الإنسان، نفسه وعرضه، وماله، وحماية حرية تدينه، وأما تفاصيل الدين التعبدية فيحفظها المسلم بإيمانه وسلوكه واقتناعه، ودعوة الآخرين إليها بالتي هي أحسن، ثم يحفظها المجتمع عبر مؤسسات المجتمع المدني.

ولذا سنجد من الفقهاء والأصوليين من اعتبر المقاصد والكليات خمساً ولكن دون أن يضيف لها حفظ الدين للاعتبارات التي ذكرتها سابقاً، فهذا الفقيه والأصولي المالكي أبو عبدالله المقري (ت 758هـ) يذكر في “القواعد” القاعدة “1188” فيقول: “اجتمعت الشرائع على تحريم الكليات الخمسة: العقول، والدماء، والأنساب، والأعراض، والأموال. وزاد بعضهم: الأديان”(10). أما الفقيه والأصولي الشافعي ابن إمام الكاملية (ت 874هـ) فاكتفى فذكر الكليات الخمس دون أن يذكر تلك الزيادة فقال: “وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ [المائدة:44]، قلنا: أمر باتباعهم في أصول الشريعة وكلياتها، وهي: الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع، وهي أصول الديانات والكليات الخمس، أي حفظ النفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، والأنساب، واتباعه عليه -الصلاة والسلام- لهم في ذلك حصل له بالدليل القاطع لا عن مجرد تقليد”(11).

_______

(1 ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/5.

(2 ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/53.

( 3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/114.

(4 ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/166.

( 5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/236.

( 6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/120.

(7 ) قواعد الأحكام 1/153-156.

( 8) المبسوط 10/110.

( 9) المبسوط 10/110.

(10 ) القواعد ص 219.

( 11) تيسير الوصول إلى منهاج الأصول من المنقول والمعقول “المختصر” 4/249.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى