كتابات خاصة

رسالة من وراء القضبان

أحمد الرافعي

تسافر الرسالة من وراء القضبان بمشقه؛ نكتبها كما لو أننا نخترع طريقة للبشرية لكي تكتب، فإن نجت كلماتي من أعين الرقباء وركعت بين يديك، سيكون قد مر عليّ في السجن ستة أشهر ويوم أو ستة أشهر وليلتين. أمي الحبيبة.
هذه أولى رسائلي إليك.
تسافر الرسالة من وراء القضبان بمشقه! نكتبها كما لو أننا نخترع طريقة للبشرية لكي تكتب!
وإن نجت كلماتي من أعين الرقباء وركعت بين يديك، سيكون قد مر عليّ في السجن ستة أشهر ويوم أو ستة أشهر وليلتين.
كنت في الماضي أتلقى منك العتاب لعدم دقتي في الحساب؛ وكان هذا عذري حين تركت تخصص الهندسة الذي كان حلم أبي لأدخل كلية الإعلام.
هل تذكرين تلك الليلة حين استدعاني أبي ليعرف السبب؟
رميت الأعذار بين قدميه. ورغم عدم اقتناعه لأسبابي إلا أنه وكما كل الآباء العظماء، ترك لي حرية الاختيار، لم يكن غبياً أو ساذجا، بل كان إنساناً فيه نفخة من تعاليم السماء التي قدست الحرية.
خرجت من مجلسه وكنت أنتِ في الغرفة المجاورة تبتسمين بمكر؛ كنتي تعلمين قلة شغفي بالحساب منذ أيام الدراسة الأولى، وولعي بالأدب والإعلام.
(ابني لا يتقن الحساب). سمعتها منك مازحة في مرات عديدة حين أتأخر عن مواعيد المحاضرات، أو أعود وقد خاتلني أصدقائي في شراكتنا للأكل، فأكلوا جيداً وعدت إليك وبطني خاوية أو عندما كانت جعالة العيد تفلت من يدي فأعود خالي الوفاض.
في ليالي السجن تأتي الذكرى بنورها البهي.
أتذكرين؟ وأنا في الثالث الأساسي، يوم حضرتي إلى ساحة المدرسة، وقلتي بصوت متهدج تنساب منه العاطفة: (العيب يا ابني ألا تتقن الحب، وأن تخبو روحك عن الأحلام)، في تلك اللحظة كانت عيناك تلتهم العلم المحلق عاليا على سارية المدرسة)..
للزنزانة الباردة فضلها في اشعال عواطفنا، عواطفنا نوافذنا في أقبيتنا المظلمة، وهذه الأوقات البطيئة التي تمر علينا في السجن تملأ نفسي بالفخر.
في السجن يا أماه نمارس هواية تذكر كل شيء، وبأدق التفاصيل.
أنا يا أمي مقيد الحرية تحيطني الجدران الصلدة والقضبان العمياء.. لكن قلبي الحر يقهقه في وجه السجان كل يوم..
ليس كل رفاقي المسجونين يحظون بأمهات يفقهن الكتابة… هل تقرأين رسالتي وتتساقط عيناك بالدموع؟ لا بأس عليك يا أمي ليست الدموع علامة ضعف في كل الأحوال.
أي روح لا تبكي للجراح الغائرة التي أثخنها الحوثيون في مهجة الوطن؟!
في ماضي الأيام، كانت أذنك تستقبل بوحي، هذا البوح الذي يلقى صداه في تضاريس روحك.
كبرت ومرت بي السنون، وخضت التجارب الواحدة تلو الأخرى، ولم أخف عنك بوح روحي في يوم من الأيام.
(ليس بين الأم وبنيها أسرار)؛ كان هذا شعار العلاقة بيننا.
لن أخفيك اليوم سراً يا امي.
يتساءل قلب الأم دوماً عن أجسامنا هل هي بخير؟ عن الأكل والشرب وهل ننام جيداً.. هل امتدت أيديهم إليك بسوء. وهل أصابه المرض. ويا ترى هل يتدثر بما يقيه البرد في ليالي الشتاء؟
سأقول لك صادقاً: (إن روحي بخير). لم يداخلها الوهن. وإن ضميري يرقص من الجذل كل يوم.
في السجن يا أماه تسافر الروح نحو السماء لتعود محملة بالأمل والرضا والوهج.
وان كنت تبحثين إجابات للأسئلة المتكررة التي تطلقها بعض الامهات. سأكون أنا السائل لك اليوم:
هل أنت بخير يا اماه؟!
وهل ياترى غيرتك الأيام؟!
 أماه لا أظنك تنسين يوم مررنا في 2006 من شارع الرقاص، وكانت صورة أبو تمام (فيصل بن شملان) على إحدى الجدران..
قلتي لي حينها: (العظماء هم بشر خرجوا من مدارات التكرار)، كل عظيم هو استثناء يمتشق قدره من وجه الزمن ويصنع التغيير.
كنت بجوارك أعدل هندامي من أن يلطخه المطر.. كنت تكراراً، وها أنا يا أماه أمتشق قدري من وجه الزمن.
فهل يليق بالاستثناء الذي أرضعتيه الفضيلة منذ الصبا، أن يسمع منك الاسئلة المتكررة؟!!
أنا بخير يا اماه.
حتى الملل الذي يتسلل إلى روحي في بعض الأوقات تعقبه انشراحات الصدر والسكينة التي يربط بها الرؤوف على قلوب المؤمنين.
وستلهم آهاتنا في الزنازين كل جيل مقاوم..
من الموثق المسجون إذاً يا اماه؟
(حياتنا سلسلة من الحسابات)، (قراراتنا ترجمة لحساباتنا)، ألم تلهميني هذه المعاني فيما خلا من العمر؟
دخلت الإعلام وسخرت قلمي ومواهبي في ساحة التغيير..
وقفت في وجه الانحراف وقاومت هذا التيار الذي جاء يفسد مستقبل اليمنيين.
أنا يا اماه أنقذت هذه الجموع من مكر الظلام، وفتحت عيونهم نحو طريق الفجر.
وأشهرت قلمي وصوتي في وجه المستكبرين..
وحين أمسك بي الحوثيون كنت أفضح بكاميرتي آلة القصف الجهنمية لأحياء تعز، وأمنح من عمري وروحي لهذا الوطن الذي هو أنا وأنتِ وابي وكل الذي نحبهم..
كان بالإمكان الفرار.. أو المضي بعيداً عن دروب سبتمبر واكتوبر وفبراير.
كان يمكن أن نخرس أصوات الضمائر ونفتح أبواباً للهروب.
كم كان في الأرصفة من السلالم المدودة.
سلالم تقودك نحو الأسفل نحو العجز والارتزاق وهوان الضمير.
في الوقت الذي كانت فيه فرص التلوث والانتفاع تتراءى في كل منعطفات هذه المدينة؛ كنت أبحث عن روحي وفرصتها في الاستثناء.
وخطواتي التي قادتني إلى السجون هي نفسها خطوات هذا الوطن من الانعتاق؛
(توحدت مع اليمن يا اماه في منطقنا نحو التحرر).
بعد هذا كله دعيني أسأل عينيك:
هل ما زلت ترددين (ابني لا يتقن الحساب)؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى