فكر وثقافة

أن نقرأ قصة حب بعد 100 عام من صدورها

سعيد خطيبي

عامان بعد صدور الرواية، تحولت إلى فيلم، من بطولة رودولف فالونتينو (1895- 1926)، وإخراج جورج مالفورد، من إنتاج شركة «باراماونت» الشهيرة. 

مئة عام تحديداً مرت على صدور رواية «الشيخ». مئة عام مرت على قصة الحب التي دارت وقائعها في بسكرة (جنوب الجزائر). مئة عام مرت على صدور أول رواية تؤرخ لما سوف يُسميه النقاد «رومانسية الصحراء»، عن تيهان ديانا، ثم اختطافها من طرف أحمد بن حسان، اغتصابها وتعنيفها، قبل أن تصير حبيبة من سامها العذاب والتنكيل. إنها رواية جزائرية، كتبتها بريطانية، تحولت حال صدورها إلى «بيست سيلر»، وصارت فيلماً في هوليوود، لم تصور منه ولا لقطة واحدة في الجزائر، من يقرأها لا بد أن يشم فيها رائحة قصص الحروب العشائرية وكره الجزائري لأخيه. مئة عام مرّت على تلك الرواية، التي لا تكاد تذكر، في الجزائر، فكيف يمكن أن نقرأها بعد كل هذا الزمن الذي انقضى؟

بين عامي 1915 و1918، كانت إديث مود هندرسون قد انتقلت من لندن إلى هازلوود (الولايات المتحدة الأمريكية)، وغاب عنها زوجها، الذي انخرط في الحرب العالمية، فوجدت نفسها وحيدة في البيت، مع ابنتها سيسيل، ما حدا بها أن تملأ أوقات فراغها في تحرير رواية سوف تسميها «الشيخ»، صدرت في 1919، وقعتها باسم «إديث مود هَل»، بدون أن تعلم أن تلك الرواية ستكون أول نص يدشن نـــــوعاً أدبياً جديداً آنذاك: رومانسية الصحـــــراء، وأن روايتها سوف يُباع منها في العام الموالي أكــــثر من مليون نسخة، هذا الرقم بداية القرن الماضي كـــان أقرب إلى الحلم، لقد كسرت إديث مود أفق التوقع، وحققت ما لم يفكر فيه ناشرها وقتــها، جعلت القراء الأنكلوسكسون يكتشفون الجزائر واتساع صحرائها، لا سيما مدينة بسكرة، التي ستصير في ما بعد نزلاً لكتاب عالميين، منهم أندريه جيد، وكذا مستقراً لكارل ماركس في خريف عمره.
بطلة الرواية ديانا مايو، كبرت يتيمة، رعاها شقيقها كما لو أنها فتاة مسترجلة، علمها الرماية واستخدام المسدس وركوب الخيل، وعودها أن تقص شعرها مثل الصبيان، رفضت الانصياع إلى رغبته في الزواج، وأدارت ظهرها لكل الذين تقدموا إليها، وفي رحلة لهما معاً إلى بسكرة لمحها الشيخ أحمد بن حسان، أُعجب بها، وانتهز الفرصة، حين نوت أن تسافر براً من بسكرة إلى وهران، قصد أن تركب الباخرة إلى مارسيليا، فاختطفها، وسجنها في واحة له، في قلب الصحراء، رغبة منه أن يجعلها عشيقة له، لفترة محددة ثم يحررها أو يدفنها، قبل أن تتحول العلاقة بينهما إلى حب جارف. في الرواية ذاتها نعرف أن بسكرة كانت مدينة ملاهٍ وصخب وسهرات حالمة، يختلط فيها عرب مع أوربيين، وتوصيف إديث مود للمدينة ـ اعتماداً على شهادات رحالة وعسكريين زاروها قبل أن تصل إليها الكاتبة نفسها لاحقاـ جاء محملاً بتفصيلات الحياة هناك آنذاك، المدينة التي حكت عنها في الرواية لا تُشبه في شيء شكلها اليوم، بعدما زحف عليها مدّ الأصولية، وحولها إلى مدينة مبتورة من ماضيها.
عامان بعد صدور الرواية، تحولت إلى فيلم، من بطولة رودولف فالونتينو (1895- 1926)، وإخراج جورج مالفورد، من إنتاج شركة «باراماونت» الشهيرة. رغم نجاح الفيلم حينذاك ـ لم يكلف أكثر من 200 ألف دولار، مع عائدات تجاوزات مليوني دولار ـ فقد أسرف في القفز على كثير من الأجزاء، التي نعتقد أنها مهمة في الرواية، مع ذلك فقد حافظ على روحها، خصوصاً في تصوير العلاقة المتناقضة من كره إلى حب، بين ديانا مايو وأحمد بن حسان، ثم اكتشافها في الأخير أنه ليس شيخاً عربياً، بل من أب بريطاني وأم إسبانية، تبناه شيخ قبيلة عربي، اسمه حسان بن أحمد، قبل أن يسر البطلان، في النهاية، بمقتهما لأصولهما البريطانية. هل كانت أديث مود تعبر على لسانها بطلتها عن كرهها بريطانيا التي غادرتها ورفضت أن تُدفن فيها لاحقاً؟
حال صدور «الشيخ»، وصفها بعض النقاد وورد في جرائد أنها رواية إباحية، ومن يقرأ عنها قبل أن يُطالعها يتوقع أن يُصادف مشاهد ساخنة بين شخصياتها، بينما في الحقيقة لا يظهر فيها أي مشهد يُحيلنا إلى الإباحية، كما نعرفها في الوقت الحاضر، لكن مقاسات الإباحية، بداية القرن الماضي، ليست نفسها اليوم، ربما جاء ذلك التوصيف تبعاً لبعض القبلات والملامسات والعناق، الذي نصادفه في النص، لكنّ نقطتين أخريين تحيلان على قراءة جديدة للرواية، بعد 100 عام من صدورها: برود دم الكاتبة في تصوير مشهد اغتصاب أحمد بن حسان لديانا، والصورة التي رسمتها عن الرجل العربي، باعتباره مرادفاً للشبقية والقساوة والصلابة في منظور النساء الغربيات.
هل يمكن أن نقرأ اليوم رواية تنطلق فصولها الأولى من مشهد اغتصاب، بدون أن نتوقع ردة فعل سلبية من قارئ أو من تنظيمات نسوية؟ الإجابة، لا، لكن «الاغتصاب» في زمن إديث مود (1880- 1947) يبدو أنه لم يكن يثير ردوداً كما هو عليه اليوم، هناك مفاهيم تطورت مع الوقت وأخرى انقلبت إلى النقيض، هذا ما يذكرنا بأندريه جيد، هل كان سيحصل على نوبل للأدب في الزمن الحاضر (كما نالها عام 1947)، وهو الذي كتب في مديح البيدوفيليا؟ على الرغم من قيمة رواية «الشيخ» السوسيو إثنوغرافية، حرصها في توصيف صحراء الجزائر بتنوعها الديني والعرقي والاجتماعي، وصرامتها في القطيعة مع الرواية الكلاسيكية، فقد وقعت في فخ تنميط «العربي»، بوصفه إنساناً تحركه الغريزة لا العقل، خانعاً لا ثائراً، مغرماً بالحريم لا بالحب.
رواية «الشيخ» هي رحلة في البحث عن الحرية والحب والشبق، وبعدما كانت الصحراء فضاءً ذكورياً، لم يكتب عنه سوى رجال، غامرت إديث مود وأصدرت روايتها، التي رغم ما حظيت به من إقرار نقدي وجماهيري، فهي لا تزال نصاً مجهولاً في الجزائر، رغم أن المؤلفة ذاتها أصدرت كتابين آخرين عن صحراء الجزائر، رواية ثانية بعنوان «نجل الشيخ» و«مخيم في الصحراء».
نقلا عن القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى