فكر وثقافة

صناعة الحصير حرفة وتراث صامد رغم الحرب في اليمن

أسهمت الحرب في إيجاد أسواق جديدة على طول خط الساحل الغربي حيث بإمكان المار أن يشاهد الباعة من الأطفال والكبار يقفون في أماكن محددة ويعرضون بضاعتهم، وبعضهم يقوم بحياكة هذه المشغولات في المكان نفسه الذي يبيع فيه.

يمن مونيتور/البيان

في الطريق الطويل الواصل ما بين مدينتي المخا والحديدة، لا بد للمسافر أن يعبر حقول الدهشة الخضراء المترامية على جنبات الأسفلت، حيث أشجار الدوم تمدّ هاماتها العالية نحو السماء مسترخية في شمس الظهيرة الحارقة وقد أغرتها نسائم البحر العليلة ودلتا الأودية الكثيرة فأقامت على الضفاف مستعمراتها الخاصة البديعة التي تشكل ما يشبه الغابات المزدحمة بآلاف الأشجار ذات النوع الواحد.
وعلى مقربة من مستعمرات الدوم نشأت تجمعات سكانية تعتمد معيشتها بصورة شبه كاملة على هذه الأشجار، فمن أخشابها بنوا بيوتهم المتواضعة ومن سعفها صنعوا حصيرهم ومستلزمات حياتهم اليومية، إضافة إلى إنتاج عدد من المشغولات اليدوية التي يقوم الأطفال بعرضها للبيع على المارة والمسافرين ويهتم أهاليهم بترويج الفائض منها في أسواق تهامة ومختلف محافظات اليمن.
حرفة نسائية
تكاد تكون مهنة صناعة الحصير في سواحل تهامة حكراً على النساء دون الرجال، عدا بعض الصناعات التي تتطلب جهداً ومهارة فائقة. ففي الساعات الأخيرة من كل يوم تبدأ العاملات باجتزاز سعف الدوم بسكاكين حادة وبطريقة خاصة دون المساس ببرعم الشجرة الذي يضمن نموها واستمرارها في الإنتاج.
وبعد جني المحصول يعدن به إلى البيوت ويقمن بوضعه في أحواض مائية وتركه يتبلل حتى اليوم التالي ليتم تجفيفه وفرد خصلاته وتشكيله في مشغولات يدوية عديدة لا تزال معظمها تجد رواجاً في الأرياف التهامية حيث لا يخلو بيت من هذه المنتجات المحلية أو بعض منها على أقل تقدير، ومنها على سبيل المثال الحصيرة التي تستخدم في فرش أرضيات البيوت والمساجد.
فيما يعد الظرف غرارة أو كيساً دائرياً كبير الحجم يصل قطره إلى متر وارتفاعه إلى مترين ويستخدم في حفظ حبوب الذرة. أما المهجان فهو حصيرة دائرية الشكل تصنع بأحجام مختلفة وتستخدم لتجفيف حبوب الذرة أو فرشة لمطاحن الحبوب الحجرية التقليدية، أما الظُلة فهي قبعات الدوم ومنها نوعان، نسائية ورجالية.
وتأخذ الرجالية شكلاً عادياً حيث تتكون من السعف ذي الجودة الرديئة، أما النسائية فتصنع بحرفية عالية من أجود أنواع السعف وتظهر بتطريز ونقشات هندسية بديعة وترتفع أسعارها في أرياف بعض المديريات الساحلية بمحافظة حجة،.
حيث تقتنيها العروس قبل زفافها وتتنافس الفتيات المقبلات على الزواج أيهن تحصل على أجمل «ظُلة»، وهناك الكثير من المشغولات اليدوية التي تعتمد على نخيل الدوم في صناعتها كالمعاشر والدُرَج والمصارف «جمع مصرفة»، والمكانس، ولكل نوع من هذه الأدوات استخدامه الخاص.
تأثير الحرب
أسهمت الحرب في إيجاد أسواق جديدة على طول خط الساحل الغربي حيث بإمكان المار أن يشاهد الباعة من الأطفال والكبار يقفون في أماكن محددة ويعرضون بضاعتهم، وبعضهم يقوم بحياكة هذه المشغولات في المكان نفسه الذي يبيع فيه.
يقول محمد مسبح لـ«البيان»، وهو أحد الحرفيين في مديرية التحيتا، إن منتجاته أصبحت أكثر رواجاً بعد تحرير عدد من المديريات بمحافظة الحديدة والخط الساحلي.
مضيفاً: الآن بإمكاني أن أبيع السلال والحبال والمكانس هنا بالقرب من بيتي دون الحاجة للذهاب للسوق، فالكثير من الجنود في القوات المشتركة.
 
 
 
إضافة إلى المواطنين القادمين إلى تهامة من محافظات مختلفة يشترون منتجاتنا والبعض منهم يأخذها للزينة فقط وكهدايا يعود بها لأسرته، أما المشكلة الكبيرة التي تواجهنا وتهدد حياة الكثير من العمال فهي الألغام التي زرعتها ميليشيا الحوثي في أماكن كثيرة من مناطق وجود شجرة الدوم، وهناك مناطق كثيرة لا تزال محجورة ولا نستطيع دخولها بفعل هذه الألغام.
وتشير خميسة أحمد، وهي إحدى العاملات بهذا المجال، أنها تعلمت المهنة منذ نعومة أظفارها وارتبطت حياتها بها حتى أصبحت جزءاً من روتينها اليومي، وتضيف في حديث خاص لـ«البيان»: ليس لدينا أي عمل آخر سوى الاشتغال في صناعة الحصير وهو يدرّ علينا دخلاً بسيطاً، لكنه يكفي لتوفير لقمة عيشنا ويحفظ كرامتنا من أن نمد أيدينا للتسول.
ونأمل أن نجد من يهتم بمهنتنا ويساعدنا على ترويجها وتصديرها، فقد كنا قبل سنوات نبيع للسياح بأثمان مجزية وهذا دليل على جودة منتجاتنا، ولكن بعد الحرب اقتصر بيعها على المشترين المحليين، وما يدفعونه لا يتلاءم مع الجهد والوقت الذي نبذله في صناعة هذه الأدوات.
بين الماضي والحاضر
يؤكد وكيل وزارة الثقافة للتراث اللامادي عبد الهادي العزعزي في حديثه لـ «البيان» أن اليمنيين عرفوا أشجار الدوم منذ القدم وتم استخدامها في إنتاج سائل الطاري وكذلك في إنتاج أغلب الأدوات التي تستخدم في المنازل.
ويضيف العزعزي: «ومن ضمن الأدوات المصنوعة من الدوم الحصير والسلال والعزف، ففي الوديان يستخدم الخوص أو الجرع في صناعة السلال وهي نباتات مائية ومنها نبات اسمه العلل، وكذلك يستخدم سعف النخيل في صناعة المكانس وحبال الشبط، وكذلك أنواع مختلفة من الحصير متعدد الاستخدام، وتأتي نباتات السيزل أو نبات السلعف في الوديان والجبال الغربية كمادة أساسية في صناعة الحبال.
وتتنوع مصادر صناعة السلال من الخوص إلى سعف النخيل إلى أشجار الدوم، وهذه الصناعات مع الأسف الشديد تواجه منافسة شديدة جداً من المنتجات المستوردة، لكن سكان الساحل ظلوا يعتمدون عليها نظراً لتوافر المادة الخام من نخيل الدوم ومن نخيل البلح أيضاً. ونظراً لرخصها وكونها عملية للسكان فهي لا تزال تقاوم المنافسة من جانب.
ومن جانب آخر تعد واحدة من أنواع الحرف المرتبطة بنوعية البيئة الحارة التي يحتاجها هذا النوع من الصناعات ذات المتانة، إضافة إلى رخص ثمنها مقارنة بالأدوات المستوردة».
ويضيف العزعزي: وهناك الكثير من سلال الدوم والنخيل وأنواع أخرى يستخدم في صناعتها الحصير والخوص وكذلك العزف، وأيضاً المحاجي ذات الأغطية وهي أنواع من العزف الأكثر سماكة وغير قابل للثني، وتحتاج مهارة دقيقة في صناعتها، وتنتشر في أغلب المناطق الساحلية إلى بداية أقدام الجبال، وفي نطاق الجبال الغربية حيث تتركز صناعتها.
الصناعة اليدوية
ولا تزال هناك الكثير من الأدوات ذات الصناعة اليدوية أو ما يسمى عالمياً (ميد هاند) في تهامة نجدها تبدأ بطاقية الرأس للرجل التي تسمى الخيزران، وهي مصنوعة من الخسف أو الخيزران وكذلك الكوافي العريضة الواقية من حرارة الشمس وتتنوع صناعتها بين مادة العلل ونخيل البلح والدوم كمصدر للمادة الخام بحسب وجود تلك الأشجار التي بعضها نبات طبيعي في الأساس وليس زراعياً.
ولا يكاد بيت تهامي يخلو من إحدى هذه الأدوات سواءً تلك المستخدمة في بناء بيوت القش أو العُشش أو صناعة الأسرّة التي تعتمد على الحصير بأحجامه المختلفة وحبال الشبط وأدوات أخرى مثل المهاجين والآجاب أو زنابيل الدوم وغيرها. وتختلف التسميات من منطقة لأخرى، لكنها في الأخير صناعة يدوية حرفية تنتقل من جيل إلى آخر بالتوارث والتعلم بالاحتكاك والملاحظة والتدريب العملي وليس النظري.
وأضاف: «نعاني خاصة في السنوات الثلاثين الماضية من أزمات مختلفة منها ضعف السوق المحلية، وتراجع المصادر الطبيعية التي يجرى الاعتماد عليها في الإنتاج وقلة الاهتمام الرسمي، بل انعدامه أحياناً، بل إن بعض الإجراءات الحكومية تكون هي العائق أمام التطور والتحديث لهذه الحرف اليدوية».
 
وتابع: «أعتقد أننا في المستقبل نحتاج إلى إدخال عدد كبير من الحرف اليدوية التي لا يزال لها سوق وطلب محلي أو خارجي، وإدماجها في برامج التعليم الفني والمهني كتخصصات ضمن هذا النوع من التعليم، واعتماد من يجيدونها خبراء محليين في تعليم هذه الحرف مع وجود أكاديميين يقومون بعملية الاستفادة من الخبرة الطويلة والمتوارثة لهؤلاء الأفراد وصياغة مناهج تركز على هذا الجانب
كما نحتاج إلى عمل منسق وطويل لخلق استدامة للمواد الخام من النخيل ونخيل الدوم والعمل على حمايتها من الاستهلاك الجائر واستزراع مناطق أخرى صالحة لزراعتها كونها مواد للصناعات التقليدية، وتشجيع أرباب الأسر على تعليم أولادهم هذه الحرف والعمل لخلق أسواق محلية وإقليمية ودولية لها».
وأوضح العزعزي أن الحرب للأسف أوقفت خططنا في هذا الاتجاه في البلد، ونأمل أن يتم إعطاء وقت كافٍ لهذا المجال وتوحيد الجهود الرسمية لتطوير هذه الحرف.
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى