فكر وثقافة

مصطفى العقاد.. نهاية تراجيدية لمخرج الملاحم العربية ومبتكر سينما الهالوين

د. أحمد القاسمي

ماذا عسانا نضيف إلى سيرة المخرج والمنتج السوري مصطفى العقاد؟ فقد قيل الكثير عن ولادته في حي الأزبكية في حلب لأسرة متوسطة الحال عام 1930، وعن تلقيه لتعليمه الابتدائي والثانوي فيها، وتعلّمه للغات الأجنبية وعمله موظّفا فيها، وفي باله السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

يشكّل السرد دائرة منطلقها حلم استبد به للانخراط في عالم هوليود، ثم مضيه فيه إلى النهاية، فيطوّف طويلا قبل وفاته عام 2005 بعد 75 سنة، ليُعاد جثمانه إلى الحي نفسه، ولتنغلق دورة الحياة.

داخل هذه الدائرة تتزاحم النجاحات والنضالات الفنية والمآسي أيضا، ورغم أن كل شيء قد قيل حول هذه السيرة المظفرة، فإننا يحدونا انطباع أنها يمكن أن تقال بصيغة أخرى مختلفة، فتركز على معاني ثابتة وجّهت منجز الرجل بدل سرد مسيرته سردا خطيا وحشرها بالمعلومات التي باتت “ملقاة على قوارع” المواقع.

“الرسالة” و”أسد الصحراء”.. ملحمتان تنتصران لقيم الكفاح المقدس

أخرج مصطفى العقاد للسينما العربية كما هو معلوم فيلم “الرسالة” (1976) الذي يعرض ظهور الديانة الإسلامية، وجعله في نسخة عربية أسند بطولتها إلى عبد الله غيث ومنى واصف، وأخرى إنجليزية تولى بطولتها “أنتوني كوين” و”أيرين باباس”. وتبدأ أحداثه بمشهد يقيمه الوافدون من حجيج مكة لتقديم القرابين إلى آلهة تنتصب واقفة أمام الكعبة، وتنتهي بوصول موكب الرسول ﷺ إليها بعد عقد الهدنة مع قريش، فتُدمّر تلك الأوثان التي جيء بها.

ثم أخرج فيلم “أسد الصحراء” (1981) الذي يعرض سيرة القائد الليبي عمر المختار في مقاومته للاستعمار الإيطالي، فيبدأ بعد الإشارة إلى المساق التاريخي للصراع الليبي الإيطالي، بعرض “موسيليني” وهو يأمر “رودولفو غراتسيانى” قائد القوات الإيطالية في أفريقيا بضرورة القبض على قائد المقاومة الليبية عمر المختار، وينتهي بمشهد إعدام الشيخ الليبي بتهمة التمرّد في ساحة عامة، فيقرأ القرآن، ثم يبتسم لطفل يقترب من منصة إعدامه، وحين ينفّذ الحكم تقع نظاراته، فيلتقطها الصبي.

يُنزّل مسار الفيلمين إذن ضمن نموذج بناء الحبكة الدرامية الهوليودي الذي يستدعي نمو الأحداث نموّا عضويا يصل البداية بالنهاية ليشكل رسالة ما، فتدمير الأوثان التي جيء بها في بداية فيلم الرسالة أمارة على نصر الله وفتحه، وفي انتقال النظارات من عمر المختار إلى الصبي تحويل لإعدام الشيخ إلى نصر، لأن أثره سيبقى في الأجيال اللاحقة، وروحه ستسري فيهم، وستخوّل لهم دحر الاستعمار وبناء ليبيا المستقلة.

وفي الوقت نفسه يكتسب الفيلمان سمات السينما الملحمية التي تصهر الذات الفردية ضمن وجود جماعي منسجم مع محيطه مطمئن إلى قناعاته، لا مجال فيه للفصل بين الذات والآخر، ولا لشقاء الغربة الاجتماعية أو الوجودية. وفي النمط الملحمي تكريس لمشهدية الحرب، وتجسيد لنموذج البطل الفذّ وحسن بلائه، وذوبانه في روح الجماعة المتوهّجة، وإشباع لعين المتفرّج المتعطش إلى رؤية مهارة المحاربين في المواجهات الضارية.

ومن خلال هذا كله بدا العقّاد متمكنا من فن تصوير المعارك، متصرّفا في موارده، جاعلا من المشاهد الحربية تشكيلا بصريا مدهشا دالا، يرتقي بها إلى مصاف الحروب المقدّسة التي تُخاض دفاعا عن الدين، وتكريسا للعدالة، ورفعا من إنسانية الإنسان، فكان بهذه المعارك يخوض معركته الثقافية، ويواجه الغزو الثقافي الغربي بالسلاح نفسه.

“عمر المختار” و”موسيليني”.. هدوء الأخيار وشقاء الأشرار

يؤثر عن العقاد عند إعداده لمشهد خطبة الوداع في “الرسالة” استدعاؤه لحكواتي ماهر يسرد حكاياته عادة في ساحات مدينة مراكش إلى مواقع التصوير، فقد كان يريد أن يُخرج من ممثليه الذين يجسدون دور المستمعين إلى الرسول ﷺ في خطبته تلك تعابير تلقائية مطابقة للتفاعل الحقيقي.

لذا فقد قدّمه إليهم على أنه شيخ جليل، وقبّل يده أمام الجموع إجلالا له بطريقة مؤثرة، وجعله يتحدّث عن الأيام الأخيرة من حياة الرسول ﷺ، وأخذ الحشد من المتابعين يجهشون بالبكاء تفاعلا مع وهج اللحظة. وفي الأثناء أخذ العقاد يقتنص المؤثر المنطبع على الوجوه بأجهزة كاميرا خفية، ومنها كانت تلك المشاهد العظيمة من فيلم الرسالة.

عمر المختار، حيث الهدوء الذي يعكس حياة روحية عميقة

وفي فيلم “أسد الصحراء” تميّز “أنتوني كوين” بقدر هائل من تلقائية الأداء عبر التحكّم في إيقاع النفس ببساطة الحركة، وأشاع حالة من الاسترخاء بملامحه الناعمة، وكيّف تعابيره لتعكس روحا هادئة منسجمة مع شخصية عمر المختار، باعتباره صوتا للحكمة والاتزان.

ومقابل الشخصيات المسلمة الهادئة، فقد جعل الكفار في “الرسالة” والإيطاليين في “أسد الصحراء” مثالا للتوتر، رغم ما يمتلكون من مظاهر القوّة المادية، فالممثل “رود ستيجر” الذي تقمص شخصية “موسيليني” مثلا لم يظهر إلا وهو يذرع الفضاء جيئة وذهابا في جو من التّشنج، وسط جمود تام لجميع أعضائه من القادة العسكريين، وكلّما أُدرجت له لقطة كبيرة كشفت عضلات وجهه المنقبضة عن تشنج وشقاء روحي، فجسّد بذلك شخصية الديكتاتور التي تستغرق بعنفها وصلفها كامل الفضاء، وتطمس حضور جميع من فيه إرضاء لنرجسيتها.

مراعاة المشاهد الغربي.. هوية عربية تفرض نفسها على هوليود

يُؤاخِذ العقادُ يوسف شاهين على تصويره للمسلمين في أحد الحوارات، فيقول: فيلم “صلاح الدين” رغم جودته يبقى فيلما محليا، وأنا عند مشاهدتي للفيلم تعاطفت مع “ريتشارد قلب الأسد” أكثر من تعاطفي مع صلاح الدين الأيوبي، أما فيلم “المصير” فلم أجد فيه الأندلس، بل وجدت أن المسلمين يحرقون الكتب، وهذه واقعة ليس من المؤكد حدوثها مع ابن رشد. ومع الأسف فإن هذا المشهد صفقوا له في مهرجان “كان” لمدة خمس دقائق، صحيح أنه يقصد المتطرفين، لكن هذا أمر نفهمه نحن، أما الغرب فسيرى بأنهم المسلمون عموما، وهذا هو الخطر.

يكشف هذا الموقف بجلاء أن الرجل يضع المتقبّل الغربي في ذهنه وهو يشكّل أفلامه، وبالفعل فقد جعل العقاد لفيلم “الرسالة” العربي نسخة إنجليزية بممثلين رئيسيين أمريكيين، وجعل مدارها على مجادلة تمثلات العقل الغربي للعرب والمسلمين.

فكانت الأحداث تذكّر باستمرار بأنهم بناة حضارة ارتقوا بالإنسان من طور عبادة الأوثان إلى التوحيد، ومن التناحر القبلي إلى الفعل في الكون، كما ارتقوا بسلم القيم من التمييز والعبودية ووأد النساء، إلى نشر قيم التسامح وحسن معاملة الأسرى أوان الحرب والمساواة بين الجنسين، وجعل للمرأة دورا فاعلا في المجتمع من خلال إسهامها بنشر الدعوة وإشاعتها.

ويكاد هذا الخطاب أن يرتقي إلى مستوى الحوار بين الأديان، ففي الحبشة يذكّر جعفر بن أبي طالب النجاشي بما كان عليه العرب من ضلال، وما أضحوا عليه من توحيد، وكفّ عن المحارم واحترام للأديان، وينبهه إلى أن ذلك يشكل عنصر التقاء مع الديانة المسيحية وعامل تقارب بين الديانتين.

وفي أثناء الحوار كانت الصورة تشكّل المعنى، فإذا الصليب الذي يحمله النجاشي يقترب من عمامة عمرو بن العاص، ويؤشر بصريا على وحدة مصدر الأديان السماوية التي تفرض على المؤمنين احترام بعضهم ديانة بعض.

مصطفى العقاد بصدد توجيه الممثلين في فيلم الرسالة

أما الواقع فبعيد عن هذه الصورة المثالية، لذلك فإنه عبر التضاد بين شخصية عمر المختار المتصالحة مع العالم على نحو صوفي، وشخصية “موسيليني” العدوانية والمتغطرسة، كان يدين النّزعةَ الاقتحاميّة الغربية التي تدمر الأرض باسم البناء، وترتكب جرائم بحق المسلمين الآمنين باسم نشر الحضارة.

سينما العقاد الأمريكية.. بصمة خاصة لأفلام أكثر مرحا وأقل جدية

تبدو أفلام العقاد الأمريكية أكثر مرحا أو أقل جدية على الأقل، بما أن المتفرج قد تغيّر. فقد أنتج الفيلم الكوميدي “جولة حرة” (Free Ride) عام 1986، ويروي مغامرة شاب يسعى لإثارة انتباه حبيبته، فيسرق سيارة محملة بمئات آلاف الدولارات من مجموعة من اللصوص.

كما أخرج بنفسه فيلم “موعد مع الخوف” (Appointment with Fear) عام 1985، ويروي قصة محقّق يبحث عن مرتكب مجموعة جرائم قتل، ويقوده التحقيق إلى نزيل في أحد الأديرة شديدة التّحصين، لكن بصمته الخاصة تمثلت في إنتاجه لسلسلة أفلام “هالوين” (Halloween) بكل تأكيد.

وعيد الهالوين احتفال يُحيى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل سنة، فتربطه بعض الدراسات بمواسم الحصاد، وتصله باستدعاء القوى الخارقة وممارسة طقوس خاصّة من ضمنها التنبؤ بالمستقبل، وتجعله دراسات أخرى الليلةَ التي يدعو فيها إله الموت الأرواح الشّريرة التي قضت في تلك السنة، لإحلالها بأجساد الحيوانات عقابا لها.

وفيها يشعل الناس النيران الضخمة ويظلون في انتظار ظهور هذه الأرواح، ومن هنا مأتى فكرة السّحرة والأرواح التي تظهر في تلك الليلة، ثم اكتسب الاحتفال أبعادا مسيحية، نتيجة للتفاعل بين المعتقدات المختلفة، فوصل إلى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر مع هجرة بعض الأيرلنديين أصحاب هذا التقليد، ثم انتشر في جميع أنحاء العالم، وكان يتأثر بالثقافة الحاضنة، كذلك شأنه في المكسيك ودول أمريكا اللاتينية والصّين، ثم أسال لعاب المستثمرين ومنتجي الأفلام.

“ليلة الأقنعة”.. ثمانية أجزاء من كلاسيكيات الرعب

بعد إخراجه لفيلم “الرسالة” أنتج العقاد الفيلم الأول من سلسلة “هالوين”، وهو فيلم “هالوين.. ليلة الأقنعة” (Halloween: The Night of the Masks) عام 1978، ففي ليلة الاحتفال بالعيد يقتل الطفل “مايكل مايرز” وهو ابن 6 سنوات أخته بسكين المطبخ، فيعتقل ويودع ضمن مستشفى للأمراض النفسية ريثما يبلغ سن الرشد ليُحكم عليه، وبعد 15 عاما من الاحتجاز وعند نقله للمحاكمة يتمكن من الفرار، ويصادف في طريقه إلى قريته ميكانيكيا، فيجهز عليه ويرتدي ملابسه، ثم يرتدي قناعا أبيض، ويرتكب سلسلة من جرائم القتل، ويثير الرعب بين الأهالي.

اعتبر هذا الفيلم الذي أخرجه “جون كاربنتر” من كلاسيكيات الرعب، وأحد أكثر الأفلام تأثيرا في عصره، وأكثر المستقل منها إيرادات. وهذا ما خوّل له أن يُحفظ عام 2006 في السجل الوطني للفيلم باعتباره “فيلما ثقافيا أو تاريخيا أو مهما من الناحية الجمالية”.

وفي عام 1982 أنتج العقاد له جزءا ثانيا بعنوان “الهالوين 2” (Halloween II)، ثمّ أخذ يراكم الأجزاء لاحقا حتى بلغ الجزء الثامن منها، وجعله بعنوان “هالوين.. القيامة” (Halloween: Resurrection) عام 2002، فحاول فيه أن يجعل القاتل “مايكل مايرز” مواكبا لعصره، فيعيده إلى منزل طفولته ليبث من هناك عروض رعبه عبر الإنترنت، ثم بعد وفاته أنتج منها ابنه مالك العقاد خمسة، كان آخرها في العام 2022.

سينما الهالوين.. نمط فني من إنتاج العقاد يغزو قاعات العرض

إثر نجاح سلسلة “هالوين” تنافست صناعة السينما في إنتاج أفلام هالوين، حتى فرضت نفسها نمطا قائم ضمن أفلام الرعب أولا، ثم خُلقت تقاليد في استهلاكها، فأضحت القاعات والقنوات والمنصات تتنافس في عرض الجديد منها في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر/تشرين الأول، ولا شك أن الفضل في إنتاج الجيل الأول منها قبل أن تصبح نهجا قائم الذات يعود إلى مصطفى العقاد. لكن إلى أي حد يمكن أن نردّ إليه الفضل في ابتكارها والحال أنه لم يخرج أيا منها؟

نقدّر أن إسهام مصطفى العقاد جلي في ظهورها، فهو صاحب حقوق ملكيتها الفكرية، ووفقها ظل ينوّع مغامرات بطلها القاتل “مايكل مايرز” مع كتاب ومخرجين جدد في كلّ مرة، وأول أفلامها يحمل بصمته الجليّة على مستوى الأسلوب، ففيه شبه كبير بأسلوب المخرج “ألفريد هيتشكوك” من جهة التشويق والتعمّق في دراسة باطن الشخصية وحالاتها النفسية، ومن جهة استلهام بعض اللقطات من مشهد الحمام الشهير في فيلمه “ذهان” (Psychose) عام 1960، فيتلصص “مايكل مايرز” على الجسد الأنثوي العاري كما يفعل “نورمان باتس”، ثم يصيبه بالسكين بضربات متعاقبة، من دون أن نعرف هوية المعتدي كما في مشهد “ذهان”.

ومعلوم أنّ العقاد كان قد ساعد “هتشكوك” في إخراج عدد من أفلامه بعد إنهائه لدراسته بجامعة كاليفورنيا.

فندق عمّان.. تفجير ينهي حياة مخرج يحارب الإرهاب

مثّل العقّادُ المخرجَ والمنتج الذي يسير وفق إيقاعين مختلفين إذن، ففي أمريكا أنتج أفلام الرعب التي تستهوي الشباب، وتفهم السينما باعتبارها صناعة للترفيه واستثمارا ماليا، وقد لقي النجاح الذي كان الشاب الحلبي يحلم به وهو في حي الأزبكية.

أما في العالم العربي فقد أنتج أفلاما ملحمية جادة تفهم السّينما باعتبارها التزاما فنيا ونضالا للدفاع عن الأمة، ومن منطلق التزامه هذا كان يرى أن إخراج فيلم عن صلاح الدين الأيوبي من شأنه أن يتصدى لحملات الصهيونية التي تريد ربط الدين الإسلامي بالإرهاب، لمجرد تورّط بعض المسلمين في تفجيرات هنا أو هناك، “لأن صلاح الدين يرمز إلى الحروب الصليبية التي كانت عملا إرهابيا باسم الدين، لكن ليس بإمكاننا أن نصف المسيحية بالدين الإرهابي، لأن بعض الأشخاص استغلوه، كما هو الحال في الإسلام” كما يذكر في حوار له.

لكن لمّا كان في العاصمة الأردنية عمّان يبحث عن سبل لتمويل مشروعه هذا، ذهب ضحية تفجير إرهابي استهدف الفندق الذي يقيم به، وكان يستقبل حينها ابنته القادمة من بيروت. ومن سخرية الأقدار أن كانت نهاية المخرج الذي صنع الملاحم العربية تراجيدية ومن تأليف عربي.

 

نقلاً عن موقع “الجزيرة نت”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى