كتابات خاصة

حكايات من قلب المقاومة (7)

أحمد عثمان

شاهد الطفل (حمودي)، كغيره من أطفال المدينة، صور الطفولة وهي تموت كل يوم؛ حضر إلى ساحة الحرية مع قريباته واستمع لخطيب الجمعة الذي تحدث عن المقاومة كمشروع حياة، وأن تعز لن تنكسر لأنها تقاوم الظلم، وتحررت من الخوف والفجيعة. تعز.. طفل (مايفتجعش )
لا شيء سيكسر ارادتنا.. هكذا قال عبدالرحمن بعد أن فقد ولديه بصاروخ أعمى.
ذات يوم من عام 2015م، ضرب صاروخ حي عصيفرة بتعز فقتل تسعة أطفال، وكانت جنازتهم لعنة على القتلة وعار على الانسانية التي لم تحرك ساكناً.
شاهد الطفل (حمودي)، كغيره من أطفال المدينة، صور الطفولة وهي تموت كل يوم؛ حضر إلى ساحة الحرية مع قريباته واستمع لخطيب الجمعة الذي تحدث عن المقاومة كمشروع حياة، وأن تعز لن تنكسر لأنها تقاوم الظلم، وتحررت من الخوف والفجيعة.
بعد الخطبة، وزعت صحيفة (تعز المقاومة) النشرة اليومية التي تنقل أخبار المقاومة والشهداء وضحايا القصف، ورقة واحدة هي المصدر الوحيد لأهل المدينة يتزاحمون عليها وينتظرون صدور ها كل يوم.
أخذ (حمودي) نسختين من صحيفة (المقاومة)، أوصل واحدة لجدته، ومن حينها و(الجدة) التي تجيد القراءة مداومة على هذه النشرة و(حمودي) هو من يوصلها، وكانت الجدة غالباً ما تعطيه قبلة على خده أو .. خمسين ريال، وأصبح (حمودي) مثل جدته وكثير من زملائه أمثال مجد ورماح يداومون على قراءة نشرة المقاومة، وغالباً ما يحفظون أبيات من زاويتها الأدبية (هاجس ثوري).
عندما سألته جدته: ايش قال الخطيب في ساحة الحرية؟ قال لها: الخطيب قال: (تعز حنك.. تعز ما تفتجعش)!
— وانت يا حبوب. 
— انا.. انا ( مافتجعش).
– ايوه انت من تعز، وتعز ماتفتجعش تقول (الجدة) وهي تمسح على رأس(حمودي) بحنان، وتضيف: شنصرنا الله وشيهزم المعتدي بحق الجمعه الجامعه والدعوة السامعه.
تمر الأيام و(حمودي) ينام على أصوات الاشتباكات العنيفة ويصحو على دوي انفجارات الصواريخ على المدنيين التي تنهال أكثر بعد كل هزيمة يتكبدها الغزاة أمام المقاومة؛
أصبح الانتقام من المدينة هو السلاح الوحيد والهدف الأول، الشهداء يصعدون كل يوم تقريباً و(حمودي) وزملائه يتابعون تفاصيل المعركة، لكنهم يومياً يقفون على قصة شهيد تنزله صحيفة المقاومة ويرددون قصصهم وينسجون الحكايات البطولية عنهم.. أصبح (حمودي) وزملائه أصدقاء للشهداء!!
لم يتركوا لعبهم في الشارع وعندما كان أحدهم يأمرهم بترك اللعب ويخوفهم بالقصف كان جواب الأطفال: (عادي بانرجع شهداء).. ويتبعها (حمودي) بكلمة (احنا مانفتجعش)..
زمان كان الأطفال يلعبون لعبة (أبو كلبة)، وهي لعبة اسطورية تتحدث عن انسان عاق لوالديه يمسخ ليلاً الى (طاهش)، ويطلع له (ذيل) ويأكل البشر خاصة الأطفال الذين يبكون أو يصرخون ليلاً، حسب الاسطورة.
وكانت الامهات عندما يردن تنويم الأطفال والتخلص من شقاوتهم يخفنهم   بـ(أبو كلبة) المخيف الذي لا يقاومه أحد… كان أطفال زمان يفزعون من اسطورة (أبو كلبة) كما كان الكبار أيام آبائهم (يتقطرنون) من جن الإمام.
اليوم استبدل الأطفال لعبة (أبو كلبه) آكل البشر، بلعبة (الحوثي) و(عفاش).. و الفارق أن (أبو كلبة) اسطورة وأطفال زمان كانوا يخافون من اسطورة (أبو كلبة) الذي لا يقاوم، لكن وضع أطفال تعز في لعبتهم (الحوثي وعفاش) مكان (ابوكلبة ) كأكلة بشر، لكنهم حقيقة والحقيقة ايضا أنها آكلة البشر يواجهون بمقاومة شاملة فيها  الأطفال الذين  لا يخافونهم وما يفتجعوش، وفي نهاية اللعبة دائما تكون   هزيمة ابوكلبة، (الحوثي وعفاش)، ويسقطون تحت أقدام  أطفال تعز المقاومة تعز التي لا (تفتجع).
وهذا فارق جوهري بين الأمس واليوم يحدد معالم الغد وصورة جيل المستقبل والوطن.
(محمد الطويل) ممن حضر حرب السبعين يوماً في ستينيات القرن الماضي دفاعاً عن الجمهورية يقول وهو ينفث سيجارته في وقفة لتأييد المقاومة: زمان كنا وحدنا ثوار والشعب ولا هو داري ولا يعرف ما يدور، اليوم الشعب هو الثورة..
ويعلق الدكتور (حمدي) هذه المقاومة من تلك الثورات تكبر وتتراكم وتترسخ مع السنوات فتصير ثقافة شعبية وطبيعة عامة عندها تتحول إلى شلال يتجاوز كل الحواجز ولا تتوقف حتى تصل مداها وهدفها النهائي.  
الدماء التي سقطت زمان تنبت وتثمر اليوم بشكل يخبرنا عن أسرار سنن الدهر وحركة التغير، وقوة الأيام الساخرة التي تقهر الجبابرة بقوة الضعفاء والكلمة وروح الطفولة العصية على الخوف!! 
في إحدى المرات سقطت قذيفة في “حي الجمهوري” عندما كان خط تماس اشتباكات؛ القذيفة أصابت تجمعاً حول (بابور) ماء، كالعادة سقط شهداء وجرحى وعاد (حمودي) إلى جدته أكثر حزناً، لأن الطفلة (دعاء البريهي) قتلتها شظايا القذيفة، وهي توزع صحيفة (المقاومة) التي يحبها …
كانت دعاء “حنك وماتفتجعش” تذهب إلى مكان القوارح والاشتباكات يقول (حمودي) ويسأل: (متى شاكون مقاومة ياجدة؟)، فتخبره: عندما تكبر. لكنه يسأل مستنكراً: ليش؟ أنا الآن كبييييير!!!
كان جارهم العجوز يحى كثيرا ما يمزح مع (حمودي) محاولاً أخذ صحيفة المقاومة وهو في طريقه إلى جدته التي يحبها ويشعر. بعمل منجز وانه مقاوم.
هذه المرة اخفى الصحيفة تحت ملابسه الداخلية حتى لا يراها العجوز؛ مر على تجمع اصدقائه الذين بدأوا باللعب كعادتهم دون أن تخيفهم القوارح والصواريخ. بدأت أصوات القذائف تتساقط بالقرب من ملعب الأطفال الذين استمروا في اللعب، فهم في تعز التي (ما تفتجعش)، و(حمودي) اللي ما يفتجعش أبداً ينشد مع أصحابه في وجه الصواريخ الانشودة الشهيرة: 
يالبنطلون نحن اشتحطنا للركب
نحمي كرامتنا …كرامتنا ذهب 
وقبل أن ينهي الأطفال انشودتهم، سقطت القذيفة السوداء وتطايرت الشظايا، والأشلاء، ويسقط شهداء وجرحى، كان (حمودي) أحدهم؛ استشهد قبل أن يوصل صحيفة المقاومة إلى جدته.
اُسعف إلى المستشفى، حاول الطبيب انقاذه عبثاً، فقد صعدت روحه، وعندما قام الطبيب بخلع ثياب (حمودي) الشهيد، ولفت نظره ورقة مخفيه بعناية تحت ثيابه الداخلية.. لقد كانت صحيفة المقاومة!!
قال الدكتور: ايش تعمل هنا صحيفة المقاومة؟!
ويضيف بإعجاب: بهذه الروح، لن تنكسر تعز، وستنتصر اليمن، وكانت قطرة دم طاهرة قد سقطت من (حمودي) لتزيّن صحيفة المقاومة وتختلط بحروفها المعبرة!
قال الدكتور وهو يسلم صحيفة (المقاومة) لأحدهم: احتفظوا بهذه للتاريخ، هذه ملاحم تصنع مستقبل ألف عام وتعتذر عن سلبية ألف عام مضى.
سجلوا يا أبناء تعز ما يجري دروساً للأجيال القادمة، وجامعات العالم الحر.
في الغرفة المجاورة كان زميله الطفل (مجد)…….يعالج من جراح القذيفة ذاتها، وعندما حاول الدكتور إخراج الشظايا وجده يبكي. قال الدكتور: مالك يا بطل مفتجع?
يجيب(أمجد): أنا مفتجعش.. بس أبكي على أصحابي استشهدوا!!
ويستمر الصمود، وتستمر الصواريخ والحصار لمدينة لا تنكسر وأطفالها (ما يفتجعوش) ويرون الموت طيراناً إلى الجنة وطريقاً سريعاً إلى ملعب النور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى