فكر وثقافة

لوحة القصر الرئاسي… والحلم الأفغاني

واسيني الأعرج

كم يتغير هذا العالم بسرعة؟ طالبان البارحة ليسوا طالبان اليوم بعد أن غيروا جلدهم؟ هذا على الأقل ما يمكن استخلاصه من الموقف الأمريكي الذي له حساباته واستراتيجياته، والموقف الأوروبي المرتبك دوماً، بالخصوص عندما تكون أمريكا هي السباقة في اتخاذ القرارات. بكل تأكيد، الشعب الأفغاني في حاجة ماسة إلى الاستقرار والعيش الطبيعي كما كل البشر، وهذا ليس بمستحيل إذا كانت درجات وعي مكونات الشعب الأفغاني الجريح قد وصلت إلى درجة عالية من الاستيعاب، تضع في المقدمة الرهانات المستقبلية لشعب تعب من الحروب والاعتداءات الخارجية حتى نسينا أفغانستان التاريخية التي حكمت مملكتها، ذات زمن، امرأة من أصول حلبية، برفقة زوجها الأمير أمان الله خان الذي تولى العرش برفقة زوجته في 1926. الحرب الأهلية غيرت وجه أفغانستان لدرجة أن أصبحت البلاد رمزاً للإرهاب والتطرف.

إن الحرب الأهلية بين موزاييك المكونات المجتمعية المتعددة والتحالفات الداخلية والخارجية، لم تساعد أفغانستان على بناء الدولة، وحل الخراب والموت والتدمير مكان العقل والتبصر. ما هي المؤشرات الإيجابية التي نراها اليوم فعلياً؟ طالبان يقدمون يومياً خطابات شديدة الهدوء، لم يحطموا شيئاً ولم يعتقلوا الناس، ولم يرجموا النساء. هل قناعة جديدة منبعها الرغبة في التغيير والسكينة بعد التجارب المرة التي لم تفض إلا إلى المزيد من الخراب؟ أم مجرد مناورة محسوبة لاستقطاب الرأي العام الدولي، الأمريكي تحديداً، الذي هم في أمس الحاجة إليه؟ الأيام القادمة ستكون امتحاناً حقيقياً لاختبار صدقية السياسة الجديدة. من خلال الصور التي تبثها المواقع، يبدو هادئين، سمحين، في شكل خراف وديعة، ونمور بلا مخالب. بل يعودون بعد عشرين سنة، بعقلية أخرى في العلاقة مع الفن، مقتلهم القديم، وهذا ما يثير الأسئلة الكثيرة. لم يعودوا أولئك الذين رفضوا الصور على الحيطان لأنها في اعتباراتهم القديمة على الأقل، جزء من عقلية الشرك، الله وحده هو من يخلق الصورة، وهي العقلية التي حطمت في مارس 2001 على مرأى من العالم تماثيل بوذا العريقة التي تعاقبت عليها القرون دون أن يمسسها أحد بسوء، بوذا الكبير، بوذا الصغير، وبوذا كاكراك. وكان الملّا عمر فخوراً بما قام به، هو ووزير إعلامه وقتها: قدرة الله جمال. اعتبرتها طالبان وقتها امتداداً لعالم الأصنام المشرك بالله. هل تغير ذلك العقل العدمي وحل محله عقل خلاق؟ هو ما ستنبئنا به الشهور القادمة. المدهش في الحكاية الطالبانية نيو-لوك، أن هناك حدثاً صاحب وصول طالبان إلى القصر الرئاسي، يثير الدهشة والتساؤل ويستحق أن نتوقف عنده. نرى في الصورة قيادة طالبان مجتمعة في القصر الرئاسي بعد الاستيلاء على كابول وفرار رئيس البلاد، ووراء الجميع لوحة فنية كبيرة وواضحة، أقرب إلى الرسومات التقليدية القديمة المتصفة بواقعية مباشرة.

محتواها: رجل بلباس أبيض، يقف على سدة عالية تجسد مقامه، يلبس الأبيض كالملاك، مجرد من أي زينة، يبارك المحاربين والشعب الذين يتقدمهم فارس محارب بسيف على جنبه الأيسر، ينحني ويتقبل تبريكات سيده. تظهر اللوحة المؤطرة وراء حكام طالبان في سكينة كاملة. لم يحطموها كما هي العادة كلما وجدوا ما يثير الشبهة الدينية. لم يعتبروها كفراً ولا رسماً تشبيهياً. شيء لا يمكن أن يُصدَّق بسهولة. ويبدو الحاكم الجديد محاطاً بمجموعته المقربة، منشغلاً، ربما، بشؤون الرعية أكثر من انشغاله باللوحة.

هل انتهت عقلية التدمير الطالبانية هكذا بضربة قرار؟ هل شنق الناس المخالفين لهم، بما في ذلك كبار المسؤولين، لم يعد من ممارساتهم وأصبح من الأشياء القديمة، لأن الطالبان أدركوا مثلاً أن العالم تغير كلياً، وأنه يمكن اكتساب ود أمريكا كحليف بدل أن يكون عدواً لهم؟ هل انتهى عهد اضطهاد المرأة وجرها نحو السجون وساحات القتل بمختلف الحجج، وأن فرض البوركا أصبح من الأشياء القديمة التي لا قيمة لها؟ ربما هذا ما توحي به اللوحة رمزياً التي تحتل صدر القصر الرئاسي، أي أنها ستظهر في كل تدخل للقصر.

لنا الحق في أن نشك حتى إشعار آخر. التخلي عن أيديولوجية شمولية صعب أن يحدث بجرة قلم. ثم إن النظام الدولي الجديد الذي تترأسه أكبر ديمقراطية في العالم، التي شكلت نموذجاً عظيماً للمفكر الفرنسي توكفيل، في كتابه حول الديمقراطية في أمريكا، الذي دعا أوروبا في القرن التاسع عشر إلى الاحتذاء به. لقد بررت أمريكا تخليها عن أفغانستان بتغيّر طالبان. لقد أصبحوا سياسيين، في اعتبارها، ولم يعودوا إرهابيين؟ لقد تفاوض الأمريكيون مباشرة وسرياً، في واشنطن وفي كابول، مع طالبان وضمنوا مصالحهم أولاً لأنهم براغماتيون، ثم إنه من الصعب الاستمرار في سياسة منهكة اقتصادياً لأمريكا. الأمر لا يتعلق بأي نموذج ديمقراطي أفغاني. عشرون سنة من اللادولة والتقتيل، والتذبيح، وتهريب المخدرات والمعادن النادرة، وكل الغنى المادي لأفغانستان، ألا يدفعنا ذلك إلى بعض الشك فيما قامت به الولايات المتحدة التي لم تستشر أحداً في قرارها ولا حتى حلفاءها في الناتو؟ لماذا غادرت أمريكا مكاناً احتلته بالنار وفرضت حكاماً تبعيين على مدار العشرين سنة الأخيرة، يخدمونها، وغير معنيين بدمقرطة المجتمع الافغاني؟ هل هي صحوة ضمير، أم نهاية حقبة استعمارية وبداية عصر جديد تتولى فيه الشعوب مصائرها حتى لو قضت سنوات طويلة في حروب أهلية لا تنتهي، تحت رقابة المال والقوى العظمى؟ لنا أن نتساءل أيضاً، أي ديمقراطية بنتها أمريكا في افغانستان خلال العشرين سنة الأخيرة، سوى التدمير والنهب والصفقات السرية؟ طبعاً الغرب الأوروبي الضعيف لا حضور له، في قرارات الأخ الأعظم Big Brother، إلا الاستسلام والسير في طريقه.

لأن أمريكا في موضوعات العرب والمسلمين لها مرجع أساسي واحد هو إسرائيل، فهي الأعرف بالعرب والمسلمين، وهي الحليف الشريك في كل شيء. يبدو الأمر في النهاية كأنه يتجه نحو استراتيجية جديدة تتعلق بالإبادة الذاتية مع ضمان مسبق لاستغلال خيرات هذه البلدان بتواطؤات محلية وجهوية. ليبيد بعضهم بعضاً في حروب أهلية لا تتوقف، ليس الأمر ذا شأن، المهم أن يظلوا هناك، في أراضيهم. فتتحول أفغانستان إلى مخبر، في سياق الاستراتيجية الجديدة-القديمة ليس فقط لقياس التوترات في المنطقة لكن أيضاً للحد، عند الضرورة، من أي تطور ديمقراطي للبلدان العربية والإسلامية الذي قد يضع الاستراتيجيات الأمريكية-الإسرائيلية في خطر. أي حروب أهلية مدمرة تنتظر أفغانستان والبلدان «المارقة» بتعبير بوش الابن، التي لم تنصع للنظام الدولي الجديد؟ أي تدمير ذاتي سيحولها إلى رماد؟ أي ترحيل وأي مجاعات تنتظر هذه البلدان؟ لهذا، مراقبة تحولات أفغانستان اليوم أكثر من مهمة. ما يحدث هناك، في بلاد الخوف، يمكن أن يتمدد بسهولة نحو العالم العربي إيجاباً وسلباً. ننتظر بكثير من الشك وقليل من الأمل، تجليات الآتي.

 

المصدر: نقلاً عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى