كتابات خاصة

فبراير وجدَل المدَنيِّة (2/2)

أول وأهم جدالات ثوار فبراير حول “الدولة المدنية” كان حول التعريف ذاته، ما المقصود بمفهوم الدولة المدنية؟ إذ شهد الحراك الثوري للشباب عدة تعريفات أطلقت لبيان مقصود هذا المفهوم، فقال بعضهم إن الدولة المدنية في السياق السياسي هي الدولة العلمانية ذاتها، فهي التي تفصل الدين عن الدولة، وهي المقابل للدولة الدينية الثيوقراطية التي يحكمها رجال الدين، فكلمة مدني جاءت في مقابل كهنوتي ديني، وهذا ما يجادل به الفريق العلماني، وقال آخرون إن الدولة المدنية هي المقابل للدولة عسكرية، فالدولة المدنية هي التي يحكم فيها المدنيون المختارون من الشعب لا قادة الجيش الذي جاءوا بالانقلابات، وهو ما يجادل به فريق من الإسلاميين، وذهب فريق آخر من الإسلاميين إلى أنها هي الدولة الإسلامية ذاتها في صورتها الصحيحة التي كانت في عهد الرسالة ويمثلها ميثاق المدينة الذي استوعب غير المسلمين، وذهب آخرون إلى أن الدولة المدنية هي الدولة الليبرالية التي تركز على حريات وحقوق المواطنين كأفراد، وقال آخرون هي الدولة الوطنية التي يستوي فيها المواطنون أمام القانون.

وحين نعود لدراسة مصطلح “المدنية” في الأدبيات السياسة الغربية وغير الغربية فإننا لا نجد له ارتباطاً بمفهوم الدولة إلا في حالات محدود وبمعان مختلفة عن بعضها بعضاً، فمثلاً، تحاكم الرومان إلى “قانون مدني” لمواطني روما في مقابل قانون غير المواطنين الذي سمي “قانون الشعب”، وذكر هوبز الفيلسوف الإنجليزي في ما كتبه عن مصطلح “السلطة المدنية” و”السيادة المدنية” وقصد بها السلطة خارج سلطة الكنيسة المسيحية، وذكر جان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي “الحالة المدنية” في “العقد الاجتماعي” على أنها مرحلة يتَّبع فيها الإنسان مفهوم العدالة بشكل أكثر تطوراً من “الحالة الطبيعية” التي يتَّبع فيها الإنسان غرائزه، وذكر هيغل الفيلسوف الألماني “الخدمة المدنية” التي يدير أصحابها الشأن العام من خلال الجزء البيروقراطي من الدولة منفصلين عما سماه “المجتمع المدني”.

ثم جاء جون رولز الفيلسوف الأمريكي وطور مفهوم “الحالة المدنية” عند روسو وطرح نظريته الجديدة في العدالة الاجتماعية، والتي بناها على طريقة العقد الاجتماعي بادئاً من حالة فرضية يكون الناس فيها على ما سماه “الحالة الطبيعية”، وهي حالة ليس لدى الأفراد فيها مجتمع، ويحجبهم ما سماه “ستار الجهل” عن معرفة ذواتهم وتحيزاتهم وعلاقاتهم، وبالتالي فهم محجوبون عن الطرق الأنانية للاستفادة من النظام العام، وليس لديهم عندئذ معلومات حتى عن مستوى ذكائهم أو ثرواتهم أو قدراتهم، ويرى رولز أن الناس في هذه الحالة الطبيعية الفرضية يحتاجون إلى مجتمع يتمتعون فيه بحرياتهم الأساسية وبعض الضمانات الاقتصادية، ثم لا بد بعد ذلك من بناء دولة حديثة من هذه البداية عبر عقد اجتماعي بين الأفراد، وقدم لعض المبادئ كأساس لهذا العقد، كالحرية والتعاون والمساواة واحترام الذات واحترام الملكية الفردية وغيرها، ثم ذكر أنه حتى تُشكِّل هذه المبادئ أساساً للمجتمعات الحديثة فإنه ينبغي لكل شخص أن يرضى بها إذا كنا سنعيد بناء المجتمع من جديد على أساس عقد اجتماعي عادل. وعلى الرغم من عدم إمكانية تحقق الحالة الطبيعية هذه في واقع الناس إلا أن مفهوم رولز عن العدالة الاجتماعية وربطها بالحريات والمساواة وتكافؤ الفرص أثر في الفكر السياسي الفلسفي في القرن العشرين سواء الذين اتفقوا أو الذين اختلفوا معه.

في المقابل فإن الأدبيات السياسية تتحدث بشكل كبير عن مصطلح “المجتمع المدني” وهو مفهوم مختلف عن مفهوم “مدنية الدولة” وإن كان لا يتبعد عن مناخها، فمصطلح المجتمع المدني يشير إلى المجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. وتمثل نمطاً من التنظيم الاجتماعي والسياسي والثقافي خارجاً قليلاً أو كثيراً عن سلطة الدولة، وتمثل هذه التنظيمات في مختلف مستوياتها وسائط تعبير ومعارضة بالنسبة للمجتمع تجاه كل سلطة قائمة. ونلاحظ من خلال تعريف هذا المصطلح أنه لا يندرج ضمن جدل “مدنية الدولة” إذ الجدل لازال مفتوحاً في هذا الأخير بسبب جدتِّه على الفكر السياسي.

 

مقاربة التعريف:

ولأنه لم يوجد بعد تعريف مستقر تاريخياً وفلسفياً للدولة المدنية فبرأي الكاتب أنه بالإمكان ملأه بكل القيم التي طرحتها التعريفات السابقة للمدنية، لأن كل واحد من تلك التعريفات تنظر لزاوية على حساب أخرى، وستؤسس تلك القيم لأرضية مشتركة بين التيارين الإسلامي والعلماني، بما يحقق التعايش وبناء الدولة، متجاوزين مصطلحي “إسلامية” و”علمانية” لما لهما من حمولات سلبية عند الفريقين، وننتقل إلى مصطلح “المدنية” التي تشمل ما نظروا إليه سابقاً من استقلال السلطة عن رجال الدين وعن العسكر في آن واحد، باعتبار كلا الفريقين (رجال الدين والعسكر) لا يمثلان إرادة الشعب ولا يحققان الديمقراطية في جعل السلطة بيد الشعب، لأنهما وصلا للسلطة من غير طريق الانتخاب الحر، ويشمل كذلك الحريات والمساواة لكل المواطنين أمام القانون، ويكون بذلك مفهوم “الدولة المدنية” شاملاً لمبادئ ثلاثة: استقلال السلطة السياسية، وحرية المعتقد والعبادة، والمواطنة المتساوية”. وانطلاقاً من تلك المبادئ ستعرَّف الدولة المدنية بأنها: “الدولة التي تحفظ استقلال السلطة السياسية، وتضمن حرية العقائد والعبادة، والمواطنة المتساوية لجميع أبناء الشعب”.

بظني أن الاتجاه لهذا التعريف ضروري للمجتمعات العربية عموماً والمجتمع اليمني خصوصاً، بما يتميز من إحاطة لكل قيم المدنية التي يمكن أن يتشكل حولها توافق مجتمعي، وبالتالي تحقيق السلام الاجتماعي الذي ينطلق على إثره الشعب للتنمية والنهوض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى