بورتريه

الجلبي.. حالم برئاسة العراق يرحل مخلفاً ظلالاً من الأسرار

*ماهر أبوطير

رحل أحمد الجلبي، السياسي العراقي المعارض للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، عن سبعين عاماً. توفي الرجل بسكتة قلبية تاركاً خلفه ظلالاً من الأسرار والطموحات والأدوار في العراق والعالم. رحل أحمد الجلبي، السياسي العراقي المعارض للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، عن سبعين عاماً. توفي الرجل بسكتة قلبية تاركاً خلفه ظلالاً من الأسرار والطموحات والأدوار في العراق والعالم.
ولد الجلبي في عائلة ذات ميول ملكية في العراق، فوالده كان وزيراً في العهد الملكي، قبل أن يقتل الانقلابيون أعضاء العائلة المالكة، فيتبدّد حظ الملكيين يومها، ويغادر الجلبي بلاده عام ثمانية وخمسين، مستغرقاً في قطاع المال والأعمال، في الغرب عموماً، وبريطانيا خصوصاً.
جمع الجلبي ثروة كبيرة، وكانت المحطّة الفاصلة التي جدّدت طموحاته السياسية، بعد أن أصبح ثرياً جداً، قصّته في الأردن حين كان رئيساً لمجلس الإدارة والمدير العام لبنك البترا، حين فر في جنح الظلام، تاركاً خلفه مصرف البترا منهاراً، وتلاحقه عمّان الرسمية بحكم من محكمة أمن الدولة عام 1992.
في مغتربه البارد، اتصل بالأميركيين، وكان أول المعارضين العراقيين على صلة بالمخابرات المركزية الأميركية، وحصل على تمويل مالي كبير، لإدارة شؤون مؤسّسته السياسية التي أسماها المؤتمر الوطني العراقي، وكان على صلة بالإدارة الأميركية، التي أراد إقناعها منذ مطلع التسعينات بإسقاط النظام العراقي، عارضاً خططه في هذا الشأن التي من أبرزها انتفاضة المدن العراقية الثلاث ضد صدام حسين، وقد باركت واشنطن خططه تلك.
 
فشل الخطة
فشلت خطة الجلبي، وأدى الفشل الى زيادة قوة تيار أميركي داخل المؤسسة الاستخباراتية والسياسية، يرى في الجلبي مجرد مبالغة فهو غير قادر على تحريك أحد في العراق.
بقي الجلبي على صلة قوية طوال عقد كامل مع واشنطن، وكان يسعى بكل قوته لأن تتوجه أميركا رئيساً للعراق، وفيما كان يتنافس المتنافسون، من المعارضة العراقية على كسب ود واشنطن، أصبح الجلبي واحداً من مجموعة معارضين كثر يتبنون مشروع إسقاط صدام حسين.
كان الجلبي يعيش في لندن، ومكاتبه تقع وسطها، في أكثر الأماكن حساسية، ولا يتم بيع أو تأجير أحد في تلك المواقع، إلا بموافقة أمنية، فيما كانت مكاتب الجلبي في منطقة «مارب ارش» المطلّة على حديقة هايد بارك، مقراً يستقبل فيه كل أنواع المعارضين العراقيين، ويتولى عبر لندن تنظيم اتصالاته مع واشنطن، التي استطاع إقناعها لاحقاً بتدريب آلاف العناصر العراقية، التي كانت هاجرت من العراق، وأغلب هؤلاء عادوا الى العراق مع الجيش الأميركي، وكانوا يحملون الجنسية الأميركية والبريطانية بالإضافة إلى جنسيات أخرى.
 
احتلال العراق
في عام 2003 احتلت الولايات المتحدة الأميركية، العراق، وكان الجلبي في عز أحلامه بتولي رئاسة العراق، وقد سعى عبر واشنطن من جهة، وتحالفاته مع معارضين عراقيين، أن يتم الدفع باتجاهه باعتباره «الرئيس المؤهل» لحكم العراق، لكنه فوجئ حال عودته إلى العراق بعد سقوط النظام بوجود قوى عراقية ضده، لأسباب مذهبية وسياسية، وبرغم تعيينه في مجلس الحكم العراقي الذي أسّسه الأميركان، إلا أن طموحه كان يضغط عليه بشدة، وسط معاناته، من رفض قوى عراقية لوجوده، وامتناع قوى عربية وإقليمية عن دعمه.
ركب الجلبي موجة المذهبية في العراق، فالذي كان يريد أن يصبح رئيساً للعراقيين، عاد وأسس «البيت الشيعي» مؤسسة سياسية، لكنه هنا، وقع في فخ المنافسة أمام قوى عراقية شيعية ذات امتداد سياسي وشعبي وتتمتع بدعم مرجعيات دينية في العراق وإيران، وبرغم دخوله على ذات الخط متمتعاً بشكل من أشكال الدعم، إلا أنه بدأ يتراجع للخلف، ويخفّف من طموحاته المعلنة، في ظل عوامل عدة أبت إلا أن تجعله لاعباً فقط مع شركاء آخرين في احتلال العراق، من دون أن يقطف ثمرة تحالفه مع واشنطن آنذاك.
 
زيارة صدّام
تنسب للجلبي وجماعاته تواقيت لافتة، أبرزها زيارته لصدام حسين في السجن، وتفاخره بصورته مع صدام في سجنه في الشهر الأول، حيث كان صدام حسين يرتدي ثوباً عربياً، وقد أطلق ذقنه، وقام الجلبي بنشر الصورة مع صدام معلقاً بقوله.. «هذا صدام نحذّر الجبابرة الجدد!» وقد أدى نشر الصورة إلى موجة غضب عارمة، من الذين يؤيدون صدام حسين، ومن أولئك الذين لا يريدون للجلبي نفوذاً في العراق، لأسباب تتعلق بالمنافسة.
ويرتبط التوقيت الثاني بحوادث نهب مالية لمؤسسات عراقية رسمية، حيث ينسب عراقيون إلى ميليشيات الجلبي قيامها باقتحام مؤسسات عراقية، ومصادرة مبالغ مالية كبيرة جداً، وكميات من الذهب، هذا فوق مساعدة هذه الميليشيات العراقية للجيش الأميركي في تحركاته واقتحاماته، من زوايا لوجستية على صعيد الوصول إلى المواقع، والترجمة وغير ذلك.
رحل الجلبي تاركاً خلفه طموحه برئاسة العراق، وهو طموح تبدد، وهو عانى هنا مرتين من سقطات السياسة، فالأولى كانت في انهيار الملكية في العراق وتحول عائلته إلى خصم للبعثيين الذين اعتبروا عائلته محسوبة على الملكية، فيما الثانية تجلت بفشله في أن يصبح رئيساً للعراق، برغم كل نفوذه المالي والسياسي، وتحوله من معارض لصدام حسين، إلى مجرد سياسي عراقي، يشتبك معه وضده، حتى اولئك الذين هم ضد النظام العراقي السابق، باعتبار أن الجلبي ليس بديلاً مناسباً، وأنه جاء العراق على دبابات أميركية بعد غياب لعقود، في المغتربات الباردة.
 
واجهة إيرانية
بقيت إيران على صلة إيجابية بالجلبي، فقد تكشف لاحقاً أنه استعمل بنك البترا في الأردن واجهة إيرانية لشراء الأسلحة لطهران في حربها مع العراق، وهو محكوم بالإعدام في العراق زمن البعث، باعتباره كان معارضاً عراقياً، ينسق مع الأميركان، ولأنه ساعد إيران في مشترياتها العسكرية، وحظه العراقي لم يكن أحسن في الأردن، حين حاكمته المحاكم الأردنية بأحكام بالغة القسوة على خلفية هروبه وانهيار البنك وتضرر آلاف المودعين، حيث صدر حكم ضده بالسجن لأكثر من اثنين وعشرين عاماً، بالإضافة إلى مصادرة أمواله.
رحل الجلبي، وقد أثار الجلبة والضجيج في حياته، ومماته، لكنه بقي في كل الأحوال رمزاً لذاك الشخص الذي لا يمكن الوثوق به إلى ما لا نهاية، ما يجعل التقييم الأميركي له يتخلص بكلمة واحدة تم توظيفها لتعريفه…«الثعلب» تعبيراً عن الذكاء الشديد والمراوغة، والقدرة على الاقناع والهروب أيضاً من المآزق، لكنه يبقى أيضاً نموذجاً لأولئك السياسيين العرب والعراقيين الذين يتعاونون مع الخارج لإجراء تغييرات في بلادهم، متناسين وغير آبهين بشأن كلفة هذا الشكل من التغيير.
 
*البيان الإماراتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى