فكر وثقافة

صياغات أدونيس النهائية: أخطاء طباعية أم استراتيجيات نصية؟

د.حاتم الصكر

متعة السرد في النص وأجواء الكتاب الأخرى تكتشفها القراءة منذ الوهلة الأولى نص الشاعر الصديق أمجد ناصر (رحلة إلى القاهرة 90: أسئلة الواقع ، أسئلة الشعر) – ضفة ثالثة 29 أكتوبر/تشرين الأول 2017 هو جزء من طبعة جديدة من كتابه السيري (خبط الأجنحة- سيرة المدن والمنافي والرحيل) الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في لندن عام 1997.*

متعة السرد في النص وأجواء الكتاب الأخرى تكتشفها القراءة منذ الوهلة الأولى. لكن ما استوقفني في قراءتي الجديدة للنص المنشور هو تكرار جملة وردت على لسان أدونيس في جلسة أدبية، ضمت أمجد مع أدونيس وآخرين في بيت الشاعر حسن طلب بالقاهرة، كرر فيها أدونيس قوله إن ما كتبتَه عام 1990 في مجلة (الناقد) وليس جريدة (الثورة) العراقية! عما سماه صياغاته النهائية لقصائده هو خلط مني بين الأخطاء الطباعية والتعديلات. وقبل مناقشة صحة ذلك الزعم سأعيد الفقرة كما وردت في نص أمجد محاوراً أدونيس: (..وهنا سألتُه عن قصّة “الصياغة النهائية” التي ظهرت على بعض كُتُبه، فقال: إن الصياغة التي قام بها مجرّد حذف وتعديل، وليست إضافة. وأشار في هذا الإطار إلى التباس وقع فيه الناقد العراقي حاتم الصكر حول “الصياغة النهائية”، إذ إنه كتب مقالاً نُشر في صحيفة “الثورة” العراقية، ثمّ أعادت نشره مجلّة “الناقد” التي يرأس تحريرها رياض الريّس، إذ قرأ الناقد، حسب أدونيس، بعض الأخطاء المطبعية التي وردت في القصائد على أنها تعديلات لجأ إليها الشاعر!).
الصديق أمجد ناصر يعلم – وقد قرأ دراستي وتحدثنا عنها – أن الأمر أشبه بحجة واهية حقا، قام بها أدونيس ليلغي ما كنتُ كشفتُ عنه، وهو ما يقرب من أربعين موضعا، أبدل فيه أو عدّل أو حذف. وما كنت أنتظر أن يردف أمجد روايته عن أدونيس بوضع علامة التعجب التي ختم بها فرية أدونيس ، فبدت – أي العلامة – وكأنها مشاركة في تعجب أدونيس مما حسبني توهمته من أخطاء طباعية على أنه اعتداء على النصوص وتاريخيتها ونصيتها السياقية والظرفية، وانتظرت – ولو في الطبعة الثانية – أن ينهي أمجد الرواية تلك بالتوضيح بأن دراستي أظهرت عشرات المواضع – وبالصفحات –  ما جرى للنصوص من تغييرات، كي لا يلتبس الأمر على القارئ ممن لم يعش تلك الفترة التسعينية، أو لم يقرأ صياغات أدونيس، ومقالتي عنها التي نشرتها من بعد في كتابي (كتابة الذات-دراسات في وقائعية الشعر) – دار الشروق- عمان 1994.
هنا أستميح صديقي أمجد الشاعر والروائي والكاتب الذي أحب وأحترم، وأتابع وأعرف مكانته في الشعرية العربية والتحديث والكتابة المختلفة أن أعيد بعض مبرراتي – لا كلها- التي تؤكد أن أدونيس كان يختلق أعذاراً لتسلطه على نصوصه تعسفاً، إذ يُجري تلك التعديلات فضلاً عن الحذف والإضافة، ويمنحها صفة فنية بتسميتها (صياغات نهائية). وهي في الواقع (تنقيح) لنصوص كتبت قبل خمسين عاماً وأكثر في بعض الحالات، وجد أدونيس غالباً أن الظرف لم يعد مناسباً لبقائها على حالها. فيما ستظل بحسب نظريته في الصياغة النهائية معروضة للتعديلات لاحقاً وبلا انتهاء.
 
إنني أدرك أن ثمة نقاداً وباحثين لا يرون غضاضة في تبديل نصٍ ما كتبه الشاعر ثم عاد لينشره بصيغة جديدة. لكن دلالات التعديل والإضافة لها في صياغات أدونيس ما يسمح بالاعتراض والمناقشة. بجانب عدم اعتقادي بهذا الحق لكاتب النص في التعديل والتغيير. فالنص وثيقة على وعي الشاعر زمن الكتابة من جهة، وشهادة على القاموس الشعري واللغة والموضوعات، والمستويات الفنية للقصيدة زمن كتابتها.
يشبّه أدونيس في مقابلة قديمة عمله في الصياغات النهائية بعمل مَن يدخل حديقة فيرفع نبتة زائدة هنا، أو يضيف ما يراه مناسباً. وأرجو ملاحظة نفي أدونيس في الجلسة المصرية لإجراء أية إضافة في الصياغات النهائية! وهذا مخالف للوحدة العضوية والنمو الفني في النص الشعري.
تبدأ القصة حين قرأت الطبعة الرابعة للأعمال الشعرية الكاملة 1985 بمجلَّديْها ، فلاحظتُ ما فيها من تعديلات كثيرة مقارنةً بطبعتها الأولى عام 1971 وبديوانيْه (مفرد بصيغة الجمع) وكتاب (القصائد الخمس تليها المطابقات والأوائل) وقد كان عنوانها الآثار الشعرية الكاملة. وهذا أول تغيير استوقفني؛ فهو يعبر عن استراتيجية عنونة جديدة، لها دلالتها ؛ فالأعمال وصف أوروبي لقصائد الشعراء وهي مجموعة في كتاب واحد. وفي العنونة أيضاً لاحظت أن ديوانه (وقت بين الرماد والورد) أصبح في الطبعة الجديدة (هذا هو اسمي) نسبة إلى قصيدته الأشهر التي دوَّن فيها شعريا جوانب من سيرة مبكرة، وكان له أثرها في الكتابة الشعرية. ولكن الدلالة تذهب إلى تضخيم الذات عبر العنونة بـ(هذا هو اسمي) كلافتة توجه القراءة. ونستمر في استعراض التبديلات لنجد أن:
– عنوان مجموعته (كتاب القصائد الخمس تليها المطابقات والأوائل) تحول إلى (المطابقات والأوائل).
 
– قصيدته: قداس بلا قصد
           خليط احتمالات
أصبحت مقلوبة العنوان هكذا:
      خليط احتمالات
      قداس بلا قصد
– قصيدة صوت أصبح عنوانها: براءة
– قصيدة تقادير أصبحت: رؤى
– قصيدة آخر الدرب أصبحت: الأشياء
– صورة وصفية أصبحت: صورة سحر
كما تخلص في الطبعة الجديدة من بعض المظاهر الشكلية -الخطّية للنصوص. فحذف الخطوط المائلة التي كان يضعها بين العبارات. ومثال ذلك:
في الطبعة القديمة:
– وجه يجتمع بحيرة/ يفترق نجما
صدر يرتعش قبرة/يهدأ لوتساً
حوض يتفتح وردة /  ينغلق لؤلؤة
أصبحت في الطبعة الجديدة أسطراً شعرية مشطورة:
 – وجه يجتمع بحيرة             يفترق نجماً
  صدر يرتعش قبرة            يهدأ لوتساً
  حوض يتفتح وردة             يغلق لؤلؤة
تخلص إذاً أدونيس من لعبة شكلية رأى – الآن بوعيه المسقط على الماضي-  أنْ لا جدوى لها.
 – وكذلك فعل حين استبدل الأرقام اللاتينية في أجزاء القصائد ومقاطعها (مراكش/فاس) مثلاً بأرقام عربية.
 – في العتبات أيضاً يجري أدونيس تعديلات تخلّ بميثاق القراءة، وسياق القصائد. فنراه يحذف الإهداءات جميعها، عدا ما كتبه بخط يده لزوجته خالدة.
لقد غابت أسماء المُهدى لهم؛ مثل أنسي الحاج، وفؤاد رفقة، ومنير بشير، وسلمى الخضراء الجيوسي، وحليم بركات، وسعيد تقي الدين. وهنا وقعت قراءتنا في واحد من ظنّين: إما أن الإهداء كان مجانياً أو ذا دلالة إخوانية غير فنية، وإما أنه بحذفه أراد توجيه النص لوجهة أخرى أعم..أو تخلصاً من ظرفية سياسية تحوّل عنها أدونيس، كحذفه تحية لجمال عبدالناصر من (مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف) والعبارة المتحمسة الملحقة باسم عبدالناصر أيضاً! وحذفه لبيتين يرد فيهما اسما بغداد وبيروت، ربما تخلصاً من المحمول السياسي المباشر:
فكأنْ لم تتركز على الشمس بغداد
ولم يصنع الورى لبنانُ
أرجو أن يتذكر القارئ معي أن أدونيس ادعى أنني لاحقت أخطاء الطباعة، فيما أقدم هنا مواضع نصية لها دلالاتها.
يضيف أدونيس للأعمال قصيدتين لم تحوِهما طبعة الآثار، هما (سمعته وفي فمه حجارة) من شعر التفعيلة 1957 و(أرواد يا أميرة الوهم) قصيدة نثره الأولى المكتوبة في بيروت في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1958. ولعله بذلك أراد إثبات ريادته لقصيدة النثر يوم يؤرَّخ لها؛ فلا يفوته حق هو من كشوفاته التجريبية وكدّه من دون شك. رغم خطابية القصيدة، وقربها من الشعر المنثور (وتأتين يا طفولة يا تميمة العمر، والموت يرسم صلباننا، ويقضم أطرافنا الحالمة….).
 
يُجري أدونيس تعديلاً صياغياً آخرَ يتصل بضمير السرد في القصيدة. فيتحول من الخطاب إلى الغيبة. فقصيدته القصيرة (البيت) كان نصها في ديوانه (قصائد أولى):
حكاية العفريت في بيتنا
بعدُ، على شفاهنا ، تخطرُ
يخبئها المحراث والبيدرُ
فيك تعرفنا على حالنا
فيك حلمنا بالمجاهيل
نقفز من كون إلى آخر
نطفر من جيل إلى جيل
وقد أصبحت في (الأعمال..):
حكاية الأشباح في بيتنا
بعدُ، على شفاهنا، تخطرُ
يخبئها المحراث والبيدرُ
فيه تنوَّرنا مسافاتنا
فيه حلمنا بالمجاهيل
نقفز من كون إلى آخر
نطفر من جيل إلى جيل
ولا شك في أن التعديل من خطاب الحضور (يا بيتنا) إلى الغائب (في بيتنا) أنقذ النص من المباشرة والخطابية، ولكن بوعي أدونيس الحداثي الأخير لحظة الصياغة النهائية. فأي الأدونيسيّين كتب النص إذاً؟
ولنلاحظ تغيير بيت كامل (فيك تعرفنا على حالنا) القريب من العامية في صياغته، إلى صياغة جديدة نما فيها وعي أدونيس باللغة فصار: (فيه تنوَّرنا مسافاتنا) وكذلك إبدال العفاريت! بالأشباح. وثمة أمثلة كثيرة على الوعي المسقَط، كحذفه كلمة (دروب) ذات الوقع الخمسيني في لغة الشعر الحديث، وإبدالها بكلمة (فضاء) ذات الحمولة الحداثية دلالياً وصوتياً!:
 – يا قصةً تسير بي دربها
إلى دروب الزمن الأولِ
أصبحت:
– إلى فضاء الزمن الأولِ
وسأعفي القارئ من الاستطراد، فلديّ أمثلة أخرى كثيرة:
– مطالع قصائد تغيرت بسبب مباشرتها
– أو حذفت والأبيات التالية لها لتبدأ القصيدة بصياغتها الجديدة من المنتصف!
– إبدال مفردات بأخرى: مثل ينوس بدل يهوي، ويلتئم بدل يلتحم، وأفراس بدل أحصنة
– مفردات غريبة حذفت، منها (يتمعك وتشلعت ونعايا)
 
– تغيير بنية النص وهيئته، مثل التشطير الجديد للأبيات، أو ترتيب المفردات في الجملة الشعرية، أو تغيير التراتب البيتي وتسلسل الأبيات تماماً، كما حصل في قصيدة (أرض بلادي)، حيث أصبح البيتان العاشر والحادي عشر أولاً وثانياً! والبيت الأول سادساً، والثاني تاسعاً، والثالث عاشراً، والرابع حادي عشرَ، والسادس رابعاً، والسابع خامساً..وحُذف البيتان الأخيران!
يدرك أدونيس ما تفعله الصياغات النهائية في التلقي، لذا يقدم (إشارات) يحاول فيها تبريرعمله، كالقول إن التنقيح يمنح النص (مزيداً من التوهج..من التعمق والتأصل) وأن القصيدة (مفتوحة مادام شاعرها حياً) لكنه يقع في مفارقة أو مصادرة في الحق حين يثبت التاريخ القديم لكتابة القصيدة المعدَّلة، وبذا يربك القارئ. وأنا مقدِّر حجة مَن سيقول إن النص مِلك للشاعر، وأنه حر في تعديله، ولكن المسألة أبعد من ذلك: إنها تخرق ميثاق قراءة النص وسياقه، وتُفقده هويته.
العمل الشعري لا ينتهي كمشروع، بل كبنية نصية انتهت وقدمت للقراءة.
هي ليست قضية أخطاء طباعية إذاً، فدواوين أدونيس وكتاباته كلها ليس فيها أخطاء لحرصه المعروف على مراجعتها!
هي اعتقاد بتسلط وهيمنة، ونفي لوثائقية النص، ودلالته على الوعي والسياق الذي خُلق فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى