كتابات خاصة

شريط اخباري مصوّر

حسن عبدالوارث

من حُسن حظي أن علبة البُن مازالت تحتفظ لي بقليل من مسحوقها الخفيف الخبيث.. وما هي الاَّ هُنيهات حتى كنت أرتشف كوباً من القهوة يساوي -عندي، في تلك اللحظة- قنطاراً من الذهب الخالص.

صحوتُ مبكراً جداً على غير العادة.
لم تكن الشمس قد أستأذنت ربَّ العرش بالخروج من خيمتها.. فيما تداخلت الأصوات والنبرات المنبعثة من مآذن المساجد في أرجاء المدينة التي غفت متأخرةً جداً، اثر ليلة مكتظة بزخّات الرصاص وحفلات القصاص.
من حُسن حظي أن علبة البُن مازالت تحتفظ لي بقليل من مسحوقها الخفيف الخبيث.. وما هي الاَّ هُنيهات حتى كنت أرتشف كوباً من القهوة يساوي -عندي، في تلك اللحظة- قنطاراً من الذهب الخالص.

ماذا أكتب؟
قصيدة الأسبوع الماضي لا تريد اكتمالا.. وأنا لا أطيق حيالها احتمالا.
ثمة أفكار متواترة، متناحرة، لأعمدةٍ شتى.
طلب اليَّ صاحب تلك الصحيفة أن أبعث اليه بمقال. لم أجد رغبة في تلبية طلبه، برغم أنه نفحني عن مقالي السابق أكبر مكافأة نشر حصلت عليها طوال حياتي.
يا لحُرْفة هذه الحِرفة!

مرَّ الوقت سريعاً.. ها ساعة الحائط تشير إلى التاسعة إلاَّ تسعاً.
حسمت الأمر.. حزمت العُدَّة.. وحثثت الخُطى صوب مكتبي في مقر الجريدة. ليس لديَّ اليوم عمل كثير.. ومتى كان لديَّ عمل كثير أصلاً؟
دلف إلى مكتبي عدد من الزملاء. قالوا كلاماً كثيراً، ولم يقولوا شيئاً. بعثت واستقبلت عدداً من الاتصالات الهاتفية والرسائل الاليكترونية. قرأت صحفاً. سمعت أخباراً وإشاعات. شربت شيئاً سائلاً ساخناً لم أفقه إنْ كان شاياً أو قهوة أم دراسة نقدية بنيوية!
ظللت أحدّق في ساعة الحائط التي تعاني عقاربها من آثار سُكْر الليلة الماضية.. وحين أزف الوقت، نهضت متثاقلاً.. واثر عشرين دقيقة كنت في سوق السمك الفاسد، أبتاع شيئاً منه للغداء.

اثر الغداء، قعدت قُبالة شاشة التلفاز لأشاهد إعادة عرض للبرنامج الحواري الذي فاتتني مشاهدته ليلة أمس لانشغالي بأمور شتى، لا أدري ما هي بالضبط!
أغبى ما في البرامج الحوارية في محطات التلفزة العربية أنها تقول لك ما تقوله -أنت- لنفسك وللآخرين، عندما تعبث برأسك نصف قنينة من الويسكي!.. وهي تستضيف -دائماً- عدداً محدوداً من الكائنات الكلامية والهلامية، يتكررون كمياه النوافير في الساحات والميادين.. وهم -دائماً أيضاً- يتبدُّون كخبراء أفذاذ في كل أمور الدنيا والدين وجميع موضوعات المعرفة.. فواحدهم -كغيره- خبير في القضايا الاستراتيجية والاقتصادية، وفي شؤون السياسة وشجون الثقافة وفنون الرياضة، وهو يفقه في الهندسة الوراثية والفلسفة الأغريقية والميثولوجيا والفن التشكيلي بمدارسه ومناهجه وأساليبه الغزيرة، ولا يُشق له غبار في أسرار عالم البحار وثقب الأوزون واللغات القديمة والاحتباس الحراري وأسعار العملات والذهب والنفط في أسواق البورصة من فرانكفورت إلى طوكيو.

في المساء لعبت الكوتشينة مع جمع من الأصحاب. وكالعادة المزمنة، خسرت مع سبق الاصرار. وكالعادة أيضاً، كنت في تمام الساعة التاسعة منسدحاً قبالة شاشة التلفاز، استمع ببلاهة طافحة إلى نشرة الأخبار التي أعرف سلفاً ما تحويه الليلة.. وكل ليلة.
واثر منتصف الليل ببضع دقائق، ذهبت إلى الفراش لأمارس المصارعة المعتادة مع سلطان النوم الذي يتعامل معي -كل ليلة- بكثير من الغطرسة والحماقة.

هذا ما يحدث كل يوم، منذ أن أصحو فجراً، إلى أن أنام في ساعة متأخرة من الليل.
أية رتابة هذي، وأيُّ ملل يكتنف هذه الحياة اليومية!
حتى في أتون الحروب، تتغير أحوال الشعوب، إلاَّ نحن! .. فقد صارت الحرب عادة يومية رتيبة وحالة حياتية مملّة.
نتقاتل، ونمضي في دوامة الحياة نفسها التي ألفناها قبل الحرب. يتساقط القتلى بالعشرات، بالمئات، بالآلاف.. ندفنهم ونمضي في طريقنا، أو نترك بعضهم طعاماً للكلاب والعقبان. تتهدّم المباني والجسور حوالينا.. نمرُّ من أمامها، مُسبّحين ومُحوقلين و”مُخزّنين”.. وكأنّنا نشاهد شريطاً اخبارياً مصوراً على شاشة التلفاز.
لا يحقُّ لليمني أن يُسمّي حياته حياة، أو يصف عيشته بالعيشة.. ولا يستحق!
فلماذا خلقه الله إذن؟!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى