كتابات خاصة

عاد المياحي فاستقامت الكلمة

ليست جملة خبرية، بل أمل نكتبه اليوم ونترك للتاريخ مهمة تحقيقه؛ نحن الذين لا نملك سوى القلم، نكتبها كي لا ننسى أن هناك صحفيًا خلف قضبان واحدة من أبشع السلالات التي عرفها التاريخ، لا لذنبٍ ارتكبه، بل لأنه آمن بأن الكلمة حق، ولأنه قال ما يجب أن يُقال.

في 20 سبتمبر 2024، داهمت مليشيا الحوثي منزل الصحفي محمد المياحي في العاصمة المختطفة صنعاء، بطريقة همجية، واقتادته إلى جهة مجهولة بعد مصادرة أجهزته وترويع أسرته، ومنذ ذلك اليوم، عاش في ظروف غامضة، قبل أن تسمح له المليشيا لاحقًا بعد أشهر من الإخفاء بالتواصل مع أسرته، وسط أخبار عن تعرضه لسوء المعاملة والتعذيب النفسي والجسدي.

في الآونة الأخيرة، أقدمت النيابة الجزائية المتخصصة على توجيه تهم رسمية بحقه، معظمها تتعلق بتعبيره عن رأيه على وسائل التواصل الاجتماعي، وظهوره الإعلامي في برامج على قنوات تلفزيونية، منها قناة بلقيس ويمن شباب، انتقد فيها أداء الجماعة وسلوكها الطائفي.

ورغم وضوح الطابع الصحفي للتهم المنسوبة إليه، تُصر النيابة على إبقاء قضيته ضمن اختصاص المحكمة الجزائية، رافضةً إحالتها إلى محكمة الصحافة والمطبوعات، وهو ما يمثل انتهاكًا قانونيًا وتهربًا من توصيف قضيته ضمن إطارها المهني المتعارف عليه قانونيًا، كما أكد محاميه (عمار الأهدل).

قبل خمسة أيام فقط، نُقل المياحي إلى سجن آخر، بعد تعرض مقر مجاور لسجنه السابق للقصف، في خطوة تثير المزيد من القلق على سلامته، وعلى وضعه الصحي والنفسي، في ظل بيئة اعتقال تستخدم فيها المليشيا المعتقلين كدروع بشرية، وهي سجون مغلقة لا تخضع لأي تفتيش قضائي أو حتى رقابة حقوقية محايدة، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا لكل القيم والقوانين الدولية.

محمد المياحي لم يكن شخصًا عاديًا، بل حالة استثنائية من الوعي، رجل لم يرفع سلاحًا، ولم يدعُ إلى فتنة، بل كتب بما يمليه عليه ضميره، وآمن بأن الكلمة حق، وأن الصحافة أمانة، كان متنورًا ولم يكن يومًا من أصحاب الخطابات المتطرفة أو النعرات العنصرية والمناطقية.

هو صحفي حر، مثقف، كاتب نزيه، سلاحه القلم لا سواه، اختار البقاء في بلده والكتابة من قلب العاصمة المختطفة، معقل المليشيا الحوثية، بكل شجاعة، وثبت في مكانه حين خُيّر كثيرون بين الصمت أو المغادرة أو القيد.

إن اعتقال الصحفي المياحي المستمر منذ أشهر يكشف عن نزعة قمعية متجذرة لدى هذه المليشيا، التي ترى في الكلمة الحرة تهديدًا لسلطتها القائمة على الخوف وتكميم الأفواه، وهذا الاعتقال ليس مجرد انتهاك فردي، بل هو سلسلة ممنهجة من الاعتداءات التي تستهدف الصحفيين، وتحوىل اليمن إلى بيئة طاردة للحقيقة والحريات.

وهو في الوقت ذاته امتحانٌ أخلاقيٌ لضمير المجتمع الدولي، ولكل من آمن بحق الإنسان في الرأي والتعبير، من منظمات ونقابات ومؤسسات حقوقية، يُفترض بها أن تكون صوتًا للصحفيين ومدافعةً عنهم، لا شاهدةً على قمعهم فقط.

نكتب اليوم: “عاد المياحي فاستقامت الكلمة”، لا لأن الخبر تحقق، بل لأننا نؤمن بأنه سيتحقق، إن لم يكن اليوم فغدًا، وسنواصل كتابتها حتى يُفتح باب الزنزانة، وتكسر الكلمة قيدها، كما فعل صاحبها

وسنظل نؤمن أن المياحي سيخرج يومًا، لا ليحتفل بنجاته، بل ليكمل الكتابة من حيث توقف، لا انتقامًا؛ بل إيمانًا بأن القلم أقوى من السجّان، وأن الصوت الحر، وإن خُنق مؤقتًا، لا يموت!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى