وقد يجتمعان
مع إتاحة المعلومة اليوم وتوفرها على بعد ضغطة زر منك بفضل التقدم الهائل في التقنية وفي ظل التعاون الدائم الذي يبديه الشيخ جوجل مع ضيوفه ونزلائه، ودعك من الذكاء الاصطناعي الذي قد يتكفل لك بتأليف بحث أو كتاب مكتمل، في ظل هذا كله لم يعد تأليف أي كتاب ميزة تستحق الثناء؛ إن أمرا كهذا لا يتطلب إلا التفرغ لبضع ساعات أو بضعة أيام لتصدر كتابا، من دون أي مشقة أو أي عناء، لهذا كثرت الكتب اليوم وندر الإبداع فيها أو الابتكار.
يركز الجادون على كتابة أبحاث صغيرة معمقة، ونشرها في مجلات محكمة ذات تأثير عال، وهذا مطلب قد يبدو عسيرا أو عزيزا إلا على باحث جاد ومسدد بالتوفيق، ومحاط بالعناية.
وليس من العسير على المرء أن يجد اليوم شخصًا لديه عشرون أو ثلاثون كتابًا مؤلفًا ومثلها مترجمًا بفضل العم جوجل، أيضًا وإخوانه؛ ولكنه يعجز عن كتابة بحث واحد متماسك من عشرين صفحة وبقيمة علمية حقيقة، ونشره في مجلة محكمة ذات تأثير عال.
كتب سيبويه كتابًا واحدًا ملأ الدنيا وشغل الناس إلى اليوم، أما سوسير الذي يلقب بأبي اللسانيات فله كتاب واحد هو من جمع طلبته، وبحث محكم واحد، ودعك الآن من حكاية العثور على صفحات بخط يده تمثل رأيه بدقة؛ ولكنه هو الآخر ملأ الدنيا وشغل الناس.
وتستطيع أن تحصي معي الكثير من هؤلاء ممن قل إنتاجهم، وكان لهم أثر لا يخفى في صعيد المعرفة الإنسانية، ممن ذاع صيتهم وطبقت أسماؤهم الآفاق.
وليس يخفى أن من أسباب هذا الصيت وذيوعه مع قلة الإنتاج الفكري أو البحثي هو أن هؤلاء قدموا نظريات جديدة أو آراء سديدة ونافذة ومتماسكة؛ أي إنهم جاؤوا بالجديد أو أبدعوا أو ابتكروا؛ وبين هذين الأخيرين فرق كبير.
إلى عهد قريب كنت أقيم علاقة تكافؤ بين كثرة إنتاج المرء من الكتب وبين العلم أو القدرة على التفكير والإبداع، فالعالم الكبير هو من يؤلف مؤلفات كثيرة، هكذا بكل هذه البساطة. وبعد وقت طويل عرفت أن ذلك دليل على شيء آخر لا علاقة له بالعلم، العلم بمعناه العميق أو العقل وقوة التفكير. يمكن أن تسمي هؤلاء جامعي كتب أو مدونات (مخازن متنقلة) مع استثناءات بسيطة حتى لا نغالي بهذا الرأي.
لقد كتب السيوطي أكثر من ألف كتاب ورسالة، وحين ادعى لنفسه الاجتهاد، وأنه مجدد القرن قامت عليه القيامة. في هذا الإطار، وضعوا له سؤالًا فيه مسائل يجوز فيها وجهان وطلبوا إليه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد وهو اجتهاد الفتوى فليتكلم على الراجح من هذه الأوجه، ويذكر الأدلة على طريقة المجتهدين فاعتذر عن ذلك ورد السؤال، وقال: إن له أشغالًا تمنع من النظر في ذلك.
ولذلك، كان إذا ضُيِّق عليه، وطُلب منه المناظرة، قال: أنا لا أناظر إلا من هو مجتهد مثلي، وليس في العصر مجتهد إلا أنا! امتلاء شديد واعتداد بالذات قلَّ أن تجد له نظيرًا؛ على أنه اعتداد له منشؤه النفسي ودواعيه المعقولة.
إن واحدًا من أسباب لجوء المرء إلى الاعتداد الشديد بما يحمل من معرفة أو علم هو الشعور بهضم مجتمعي، عدم الالتفات إليه مع شعور شديد يقيم في النفس بأنه مبدع وبصرف النظر عن حقيقة هذا الادعاء فإن السيوطي كان يعتقد هذا، أنه عالم بل بلغ مرحلة الاجتهاد وتلك مرحلة من الصعب الوصول إليها قبل تحقيق علوم ذات صلة والامتلاء فيها والقدرة على الاستنباط؛ على سبيل المثال، لا بد للمجتهد من معرفة مسائل الخلاف في الفقه وأدلتها التفصيلية وما ينقضها وما يؤيدها… كما عليه أن يكون عالمًا خريتًا بالأصول وعلوم الحديث واللغة، اللغة بمعناها الواسع، وقبل ذلك امتلاك المَلَكة الفقهية. وكان السيوطي يعتقد كل هذا ويشعر بأنه مهضوم، وكان مجايلوه لا يرونه بهذه المكانة التي يضع السيوطي نفسه فيها. وهذا ما جعله يصرخ في وجوههم بأنه بلغ مرحلة الاجتهاد، وذلك تصريح كان وراءه دافع نفسي؛ وهو ما يجعلنا نقيم له عذرًا فيه. على أن ثمة اعتدادًا ظاهريًا بالنفس ناتجًا عن فراغ، قد يتبدى على هيئة فراغ ذهني أو علمي يضطر صاحبه إلى التعويض عن هذا القصور عبر تكنيك معين، يشبه تكنيك السيوطي مع ملاحظة الفارق في الدافعية، بين الشعور بالهضم لرجل يمتلك شيئًا، وبين رجل لا يمتلك أي شيء.
ومهما يكن، نكّت عليه أبو العباس الرملي فقال: إنه وقف على ثمانية عشر سؤالًا فقهيَّا سئل عنه الجلال السيوطي من مسائل الخلاف المنقولة فأجاب عن نحو نصفها من كلام قوم متأخرين كالزركشي واعتذر عن الباقي بأن الترجيح لا يقدم عليه إلا جاهل أو فاسق!
قال الشمس الرملي (وهو ولد أبي العباس) فتأملت فإذا أكثرها من المنقول المفروغ منه فقلت: سبحان الله! رجل ادعى الاجتهاد وخفي عليه ذلك… إلى آخر ذلك.
وفي الحق أن السيوطي كان يمتلك عقلية تجميعية فحفظ لنا الكثير من كتب التراث على ما في هذا النقل أحيانًا من هنات وقصور؛ ولكن قدرته على البحث العميق والاستنباط كانت ضعيفة. كان يفتقد لمهارات التفكير العليا، إذا ما استعرنا مصطلحات علماء القياس والتقويم هذه المرة. لقد حدثنا هو نفسه أن مسائل الرياضيات لا يستطع فهمها حتى لقد قال إن الحساب أعسر شيء عليه وأبعده عن ذهنه، وإنه إذا نظر إلى مسألة تتعلق به فكأنما يحاول حمل جبل. ويخبرنا كذلك بأنه قرأ في أول الطلب شيئًا من المنطق فتركه. وعلى سبيل حماية نفسه من اتهامه بعدم القدرة على الفهم للمنطق، قال إنه سمع ابن الصلاح أفتى بتحريمه فتركه فعوضه الله بعلم الحديث، أجل علم الحديث الذي لا يتطلب سوى مهارة الحفظ والتذكر… فمئات المؤلفات التي كتبها السيوطي لم تشفع له بأن يكون أحد المجتهدين، ولم تسلكه بين النظار وأرباب العقول الكبيرة. وقد ينشأ الشك في أن هذه النقول كانت من أقرانه ومنافسيه؛ ولكن ما يرويه هو عن نفسه، وطبيعة إنتاجه يقوداننا إلى تلك النتيجة التي ألمعنا إليها قبلًا. إن غزارة الإنتاج وكثرة التأليف وجودته لا تكافئ القدرة على التفكير العميق والمبدع. وتلك فكرة تستبد بي كثيرًا ولذا فأنا شديد التصديق والإذعان لها. وأحسب أن الكثير يتفق معي في هذا الشأن. وإن شئت أذكر لك دليلًا فهاك هذه:
اجتمع ابن المقفع مع الخليل بن أحمد، فتذاكرا ليلة تامة، فلما افترقا سئل ابن المقفع عن الخليل، فقال: رأيتُ رجلًا عقلُه أكثرُ من علمِه. وقيل للخليل: كيف رأيتَ ابن المقفع؟ فقال: رأيتُ رجلًا علمُه أكثرُ من عقلِه. على أنهما قد يجتمعان (نادرًا)، فقد يمنح الله البعض تينك النعمتين، العقل الواعي والقدرة على التأليف.