صحيح أني زرت قبل تلك الأيام وبعدها مدناً وبلداناً تعتبر أكثر جمالاً وشهرة فمهما نقَّلت فؤادي فحنيني دائماً يكون لأول منزلِ!
رغم مرور اكثر من اربعة عقود على مغادرتي العراق إلا أنه لازال في عقلي ووجداني طيلة هذه السنين ، فقد عدت لبلادي اليمن وعملت كدبلوماسي في أكثر من بلد عربي وأوربي وفي أمريكا ، وطيلة هذه الفترة وأنا أتابع الشأن العراقي سواء عبر الصحف والمجلات والكتب والإنترنت من خلال شاشات التلفزيون التي تتناول قضية العراق ، وكنت أتحدث لدبلوماسي عراقي في بروكْسل قبل سنوات عن العراق فيجيبني بقوله: إنك تعرف عن العراق أكثر مني! قلت له: إنني لا أكتفي بما يكتب ويُقرأ عن العراق بل أشاهد كل يوم إحدى قنوات العراق التي فرخت العشرات بدلاً من قناة أو قناتين في نهاية السبعينيات ، فقد تابعت بألم غزو صدام للكويت وكيفية انسحابه منها بعد حرب مريرة وقبلها تابعت سير الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثماني سنوات عشت السنة الأولى للحرب وأنا في العراق وكتبت عن تلك الحرب في الصحف والمجلات العربية واليمنية ، ولازلت أحتفظ بتلك الأعداد حتى اليوم.
الثقافة والفن والأدب في العراق في السبعينيات
عُرفت بغداد في العصر الحديث على الأقل(ولاسيما في عصرها الزاهر الخمسينيات وحتى السبعينيات) بأنها سوق للكتب العربية فهناك مقوله: بأن الكتب تؤلف في مصر وتطبع في لبنان وتباع في العراق!
وفي سوق( الورّاقين) أو مايعرف الآن بشارع المتنبي يعيد الكتاب مجده وتراه أيام الجمع تحديداً يعجُّ بالرواد المتعطشين للمعرفة رغم إمكانياتهم المحدودة، وفي سوق (المتنبي) ترى المكتبات المتراصة لتصريف الراكد من الكتب التي عجزت دور النشر عن تسويقه ، وهناك يستطيع صاحب الدخل المحدود والطالب والزائر أن يقتني كتاباً أو كتباً بأقل الأسعار بعضها مستعملة وبعضها تبدو جديدة ولكنها تباع بسعر القديم أو المستعمل، وهناك دكاكين تعرض عليك تجليد كتب بأقل الأسعار تماماً كما كان ولازال في سور الأزبكية في القاهرة، وقد خصَّصت هيئة عراقية أهلية تهتم بالشأن الثقافي مبالغ كبيرة لإعادة تأهيل شارع المتنبي بالعاصمة بغداد.
وأول مطبعة كانت في هذا الشارع وتعود إلى القرن التاسع عشر، كما يحتوي على عدد من المكتبات التي تضم كتباً ومخطوطات نادرة إلا أنها حرقت بعد الغزو الأمريكي إضافة إلى بعض المباني البغدادية القديمة، كما تدَّمر مقهى الشاهبندر الذي يعدُّ من معالم بغداد العريقة. إضافة إلى تدمير و احتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع.
بالنظر للتنوع الجغرافي والإثني والطائفي فإن فسيفساء العراق عرفت بالتنوع لاسيما في الغناء الذي أثر في فنون المنطقة المجاورة.
يبدو من قراءة تأريخ العراق الحديث بأن مرحلة الأربعينيات والخمسينيات كانت فترة نهوض فني كذلك العقود التي تلتها الستينيات والسبعينيات والتي شهدت وجوهاً جديدة وإذا قُورنت بالوقت الحاضر صحيح أن الإمكانيات أفضل بكثير والتطور التكنولوجي ساعد في ذلك ولكن باعتقاد كثير من النقاد إن العقود الماضية هي أخصب من اللاحقة رغم الانتشار المتواضع حينها.
لازلت أتذكر مقاهي شارع الرشيد والحارات المتفرعة منه وفيها كان يُسمع صدى أغاني ناظم الغزالي تشدو ورغم مرور نحو خمسون عاماً على رحيله إلاّ أنه ترك بصماته في الفن العراقي ، وقد تزوج من سليمة مراد التي كانت تكبره سناً وهي الأُخرى من أشهر مغنيات بغداد في الخمسينيات والستينيات وهي يهودية عراقية ملأت شُهرتها أنحاء العراق حينها وبعض البلدان العربية في المشرق العربي وأشهر أغاني ناظم الغزالي لازالت بعض أغانيه في ذاكرتي وأسمعها في أشرطة مسجلة من حين لآخر ومنها على سبيل المثال المفردات التالية وباللهجة العراقية الدارجة:
قلي يا حلو منين الله جابك
خزن جرح قلبي من عذابك
هم هذا نصيبي وانجبر بيه
جرح القلب من فرقاك خزه
قلبك من صخر ما حن عليا
بيدي جبت لنفسي حجاية
قولي يا حلو شجابك عليا
جمدت الألم والهم بيا
وانا اللي اجرحت ايدي بيديا
خليت الخَلق تحتشي عليا
كما أن مفردات أغانٍ كثيرة من مغنيات بغداد في الخمسينيات والستينيات لازالت صداها إلى الآن لاسيما لدى متذوقي الغناء والمقامات في العراق في تلك الفترة الثرية بالعطاء..أما أغاني سليمة مراد لعل أشهر مقطع من بعض أغانيها هو:
قلبك صخر جلمود ما حن عليـه
وانت بطرب وبكيف وألبيه بيــه
لوما لهيب النار بضلوعي أضمك
تمنى ورده تصير كل ساعة اشمك
كانت الخمسينيات زاهرة بالفن والطرب وكان في العراق نهضة أدبية عظيمة من رسم ونحت وشعر وتأليف وروايات ، وفي نهاية السبعينيات ومرحلة الثمانينيات إلا أنه للأسف كله كان مكرساً لنهج وأيدلوجية واحدة لأن العراق كله كان يعيش تحت ماكان يسمى بالحزب الواحد وهو نظام كلي شمولي حجَّم ـ للأسف ـ سقف الحريات لدرجة كبيرة ورغم ذلك كان هناك حركة أدبية ناهضة وشعراء يشار إليهم بالبنان.
إقامتي في العراق لسنوات جعلتني قريباً أيضاً من الثقافات الشرقية مثل اللغات الكردية والفارسية ومن الفن والغناء الإيراني وبدأت أتذوق عذوبة الأغاني الإيرانية ومن خلالها عرفت مفردات فارسية أو كلمات عربية في اللغة الفارسية والعكس أيضاً.. واكتشفت بأن اللهجة العراقية تحوي عدداً هائلاً من الكلمات الفارسية والتركية بل واليونانية على سبيل المثال (أكو) و(ماكو) بحثت عن أصل الكلمتين فوجدتهما يونانيتين! في حين كلمات مثل أغاتي وخوش وعشرات من المفردات هما من أصل فارسي وثمة كلمات من أصل تركي وكردي وحتى إنجليزي.
عرف العراق على مدى قرون بأنه منبع للفكر والأدب والفن فهذا البلد أخرج أشهر المفكرين والأدباء والفنانين في كافة المجالات، وهو إلى جانب ذلك مصدر للتراث والتأريخ الإسلامي بالمدارس والأفكار والاجتهادات على مر العصور.
كنت قبل بضعة أسابيع أطالع كتاباً بعنوان مغنيات بغداد عبر العصور ويتلخص الكتاب في أن في ذاكرة العراق الفنية العشرات من الفنانات على مر العصور لو ذكرنا فقط مغنيات القرن العشرين مثل عفيفة اسكندر وصديقة الملاية وسلطانة يوسف وهي يهودية أيضاً مثل سليمة مراد وزهور حسين ومائدة نزهت… إلخ
ولمعت على مدى تأريخ العراق الحديث أعلام فكر وأدب ومن أشهر شعراء العصر الحديث البياتي والجواهرى.. وبدر شاكر السَّيَّاب والرصافي ونازك الملائكة وعبدالرزاق عبدالواحد، وغيرهم كثيرون.
فيما يتعلق بتنوع الفن والفلكلور فالعراق مثل اليمن متعدد الألوان فهناك الأغاني البغدادية (المقامات) والفن البصراوي والمصلاوي والكردي والبدوي وغيره ،وكذلك الأمر بالنسبة للأزياء واللهجات ونحو ذلك، تماماً كما هو الحال في تنوع الغناء في اليمن بين صنعاني ولحجي وحضرمي وتهامي وخلافه ، ومثله في الأزياء واللهجات أيضاَ.
* مُقتبس من مؤلفي الأخير في اصداره الثاني المعنون : مشاهدات وانطباعات من الشرق والغرب رؤية يمنية في أدب الرحلات
* الصورة لي في كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد في العام 1979م اي قبل نحو اربعة عقود مع زميل الدراسة الاستاذ عبدالرحمن يحيى القوسي (عبدالرحمن القوسي)