كتابات خاصة

السندباد العنسي

حسن عبدالوارث

كتاب أنور ليس من كتب أدب الرحلات بتصنيفها التقليدي، ولا هو مجرد غلافين يضُمَّان بين دفَّتيهما مجموعة من المقالات والاستطلاعات والخواطر الصحافية التي يُحرِّرها الكُتَّاب والصحافيون عادةً اثر عودتهم من رحلت مهنية أو سياحية قاموا بها إلى هذا البلد أو تلك المدينة. المرأة التي تستعصي عليك أو تتمنَّع عنك، تثير فيك قدراً كبيراً من الفضول الغريب أو الانجذاب الساحر، أكثر من المرأة التي تنجذب إليك بسهولة أو تمنحك نفسها من دون تعب ولا مكابدة.

والأمر نفسه يشبه إلى حدٍّ كبير علاقتك بالمدن التي يستحيل عليك معرفة أسرارها وادراك مفاتيحها بيُسْر.. أو الموسيقى أو اللوحة التي يصعب عليك فهمها منذ البدء، لاكتنافها قدراً من الغرابة والغموض.
تأسيساً على هذه القاعدة يمكنك التعرُّف إلى “الفلسفة” الخاصة بالصديق الأديب والاعلامي المتميز أنور العنسي، في ارتحالك الشائق معه بين ثنايا رحلاته وجولاته حول العالم والتي احتواها كتابه البديع “مرايا الأزمنة”.
وكتاب أنور ليس من كتب أدب الرحلات بتصنيفها التقليدي، ولا هو مجرد غلافين يضُمَّان بين دفَّتيهما مجموعة من المقالات والاستطلاعات والخواطر الصحافية التي يُحرِّرها الكُتَّاب والصحافيون عادةً اثر عودتهم من رحلات مهنية أو سياحية قاموا بها إلى هذا البلد أو تلك المدينة.
إنها بلاد لم يزرها ابن العنسي فقط، ولم يعش فيها فحسب، بقدر ما عاشها حقاً. عاشها بمعنى الحياة الأصيلة لا المفردة المجردة. عاشها بأشخاصها وأشيائها، وبكل البانوراما الشاملة التي تحيط بها من كل جوانبها، والأهم من داخلها.

طاف أنور بنحو ثلاثة أرباع بلاد الدنيا، خلال ما يقارب نصف قرن من الزمان. وتعرَّف إلى شعوب ومجتمعات تعدَّدت لغاتها وثقافاتها، وتنوَّعت عاداتها وتقاليدها، وتداخلت أعراقها وأديانها، وتمايزت طُرُزها العمرانية وأنماطها الجمالية وأصنافها اللباسية والغذائية.
من أقصى شمال أوروبا وأميركا، ومن المشرق العربي إلى مغربه، ومن مجاهل أفريقيا إلى شموس آسيا، وقبلها وخلالها وبعدها مدائن وقرى بلاده، راح ابن العنسي يُقدِّدم لنا وجبات ثقافية وحضارية شديدة الدسم على أطباق لغوية وفنية بالغة اللمعان.
ولعلَّ علاقات أنور ببلاد الدنيا كوم، وبمدائن وقرى بلاده كوم آخر. فهو يُدهشك بملامح وخفايا تلك العلاقة التي ربطته بصنعاء القديمة -مثالاً- بحيث تشعر بأنه يُعرِّفك إليها لأول مرة، برغم أنك قد زرتها وطفت بها وتجوَّلت بين دروبها وحواريها ومعالمها عشرات المرات، حتى أنك حفظت معظم صفحات كتابها عن ظهر قلب!
وينتابك الشعور ذاته حين يُحدِّثك بتلك الحميمية الساحرة عن قريته “الذاري” التي كانت مدينته الأولى أو كتابه الأول، أو عن مسقط رأسه: مدينة ذمار، أو عن تعز وصنعاء وعدن وشبام حضرموت.

كان أنور مُحِقَّاً ودقيقاً في قرن مراياه بوصف الأزمنة، لا الأمكنة كما قد يتبادر إلى ذهن القارىء من الوهلة الأولى، باعتبار أن المدن التي يزورها المرء أو يعيش فيها تنعكس على وعيه ووجدانه كمرايا للأمكنة، وذلك بديهي في حال كانت تلك العلاقة عابرة بين الشخص والمدينة، أي علاقة سفر أو محطة عبور في مسار القيام بمهمة مهنية أو بمعرفة سياحية.
لكن معظم مدن العنسي كانت علاقة دائمة أو شبه دائمة، وفي كل الأحوال هي علاقة حميمة. وكانت في أغلبها تتجدد وتترسخ بين كل فترة وأخرى، حيث تعددت بعض زياراته واقاماته وطالت وتعمَّقت، كما هي الحال مع لندن أو مقديشو مثالاً.
وبرغم معرفتي الطويلة زمناً وشخصاً بأنور العنسي، الاَّ أنني -بهذا الكتاب- أكاد أكتشفه لأول مرة، ككاتب يقطر جمالاً في رؤيته وجملته على السواء. ولماذا أدهش وأنور أديب وصحافي من الطراز الموهوب إلى حدٍّ بعيد من القدرة على امتلاك الحنكة في التصوير والحبكة في التعبير والسلاسة في الوصف والدقة في المعلومة والأناقة في العبارة، كأبرز ما ينبغي من أدوات في حوزة امرىء سُخِّرت له مَلَكَة التعاطي الرفيع مع أسرار الحرفتين: الصحافة والأدب.
لا يمكن لي أن أفي هذا الكتاب ولو بعض حقه، عبر عمود أو حتى بضعة أعمدة. ولهذا أظن أن لي عدة وقفات قادمة أخرى مع أسفار السندباد العنسي ورحلاته، في غير مقال ومقام.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى