كتابات خاصة

“الشافعي” وأثره في العقل الفقهي

د. عبد الله القيسي

ولو تأملنا في ترتيب المذاهب زمنياً، فسنجد أننا كلما ابتعدنا عن زمن النبي (ص)، زادت الروايات بشكل أكبر، وصار كل خلف يروي أكثر من سلفه، وهكذا استمر توسع الروايات حتى بدأت حركة التأصيل لحجيتها وإلزاميتها واستقلالية مصدريتها حين نعود إلى بداية المرحلة الذهبية للعقل الفقهي في عصر الصحابة والتابعين نجد تعدد الآراء والمذاهب ونجد أيضاً أن الفقهاء خالفوا كثيرا من روايات الآحاد التي سمعوا عنها ثم دُوّنت وجُمعت فيما بعد، بل وتلك التي وضعها الوضاعون بعدهم، ثم لما جاء المحدثون ومقلدو المذاهب، وجدوا حرجا في رد أولئك الفقهاء لكم كبير من الروايات التي صارت في متناول المتأخرين، فبرروا لأولئك الفقهاء في مخالفتهم للروايات بأنها لم تصل إليهم، ولو وصلت إليهم لما ردوها، ونسوا أن يسألوا أنفسهم: كيف حق لأولئك الفقهاء الاجتهاد دون البحث عن تلك الأخبار الآحادية إذا كانت دينا وحجيتها ملزمة؟!!، ونسوا كذلك أن أولئك الفقهاء ردوا روايات كثيرة وصلت إليهم -بطرق تعتبر عند المتأخرين قوية- ولكنها خالفت أصولهم كما عمل أبو حنيفة حين عرضها على أصل القياس، وعموم القرآن، ومالك حين قدم عليها عمل أهل المدنية، وقدم كذلك القواعد العامة والأصول الكلية المستنبطة من عموم القرآن.

ولو تأملنا في ترتيب المذاهب زمنياً، فسنجد أننا كلما ابتعدنا عن زمن النبي (ص)، زادت الروايات بشكل أكبر، وصار كل خلف يروي أكثر من سلفه، وهكذا استمر توسع الروايات حتى بدأت حركة التأصيل لحجيتها وإلزاميتها واستقلالية مصدريتها، وكان الإمام الشافعي هو أول من قعد وأصل لحجية خبر الآحاد وإلزاميته في كتابه المشهور (الرسالة)()، فجعل خبر الآحاد أصلا مستقلا عن الكتاب، بعد أن كان تابعا لأصل الكتاب كاجتهاد يدور حوله فإن عارضه أو لم يعد مناسبا للزمان أو المكان رد ببساطة، فصار حديث الآحاد بعد كتاب الرسالة مكافئا للقرآن في النظر والاعتبار، وصار الفقهاء المقلدون والمحدثون ينظرون لخبر الواحد ظني الثبوت كما ينظرون لنص القرآن قطعي الثبوت، وقد اعتبر الإمام الشافعي عمله ذلك تصديا لأصحاب الرأي الذين رفضوا تخصيص آيات الكتاب وتقييدها بالخبر الخاص (أي أحاديث الآحاد) خشية منهم من أن تنسخ أحكام الكتاب بأخبار ظنية، وقد بنى الشافعي منهجيته في التصدي لأصحاب الرأي -ممثلين بمدرسة الأحناف وقريبا منها المالكية -على أركان ثلاثة:
            1.         اعتبار الحديث هو الحكمة التي ذكرها القرآن وهي جزء من مهمة الرسل.
            2.         منع نسخ السنة بالقرآن.
            3.         حجية وإلزامية الأخبار الخاصة (أحاديث الآحاد) مع ذكر فروق بينها وبين الأخبار العامة في الإلزام والحجية لم يعد يعيرها من جاء بعده أي اهتمام فصارت الحجية متساوية بين القرآن وحديث الآحاد.
 يقول الإمام الشافعي: ” فقال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله. قال: ومثل ماذا؟ قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله، وموجود عاما عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء سنة فإنما هي من أخبار الخاصة، ولا أخبار العامة وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا. قال: فيعدو هذا أن يكون واجبا وجوب العلم قبله؟ أو موضوعا عن الناس علمه، حتى يكون علمه منتفلا، ومن ترك علمه غير آثم بتركه؟ أو من وجه ثالث، فتوجدناه خبرا أو قياسا؟ فقلت له: بل هو من وجه ثالث. قال: فصفه واذكر الحجة فيه، ما يلزم منه، ومن يلزم، وعن من يسقط؟ فقلت له: هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة، ولم يكلفها كل الخاصة، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها، وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحرج غيره ممن تركها، إن شاء الله، والفضل فيها لمن قام بها على من عطلها “.
وقال في مكان آخر يبين حجية كل من الخبر العام والخاص مع تفريق بينهما لم يعد موجودا عند من بعده: ” فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك حجة؟ قيل له إن شاء الله: نعم. فإن قال: فأبن ذلك؟ قلنا: أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مجتمع عليها فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب. فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله. ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، وقلنا ليس لك -إن كنت عالما -أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم”.
فالشافعي في رسالته كَتَب أصول الفهم (الفقه) التي طارت بها الركبان ظنا منهم أنها أصول متفق عليها، رغم أنها خالفت أصول شيخه مالك وأصول أبي حنيفة وأهل العراق، وبسبب ذلك الاختلاف خالفهم في مسائل فقهية كثيرة، فمالك مثلا يقدم عموم القرآن وظاهره وعمل أهل المدينة على خبر الآحاد، وأبو حنيفة يقدم ظاهر القرآن وعمومه والقياس على خبر الآحاد، لكن الشافعي خالفهم في كل ذلك. وهنا انتقل الفقه والاجتهاد بعد الإمام الشافعي إلى طور آخر، طور الجمع والتدوين لروايات الآحاد، بعد أن قعد لها الإمام الشافعي القواعد الأولى فركز شروطه على سند الرواية لا متنها.  كانت أول صيغة لتلك الشروط هي ما ذكرها الإمام الشافعي في رسالته، وهكذا صرنا نلاحظ بوضوح -كنتيجة لذلك- أن كل الفقهاء ظهروا قبل الشافعي، كما أن كل المحدثين ظهروا بعده، وظهور المحدثين يعني اتساع الذاكرة وغياب الفقهاء، يعني ضمور المخيلة، ولم تخرق تلك القاعدة إلا استثناءات نادرة هنا أو هناك، فقد ظهرت مدرسة المحدثين بقوة، ابتداء بتلميذ الشافعي نفسه وهو أحمد بن حنبل، ثم جاء البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدار قطني غيرهم من المحدثين، وأما الفقهاء المجتهدون الذين ظهروا قبل الشافعي فقد سردتهم من قبل.
ولم نعد نسمع بعد هذه المرحلة بفقهاء مجتهدين كونوا مذهبا مستقلا كالتي أنتجتهم المرحلة الذهبية إلا ما كان من شأن المذهب الظاهري الذي سأفرد له مقالا تالياً.
————–
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى