كتابات خاصة

روح مبتورة

فكرية شحرة

المؤلم هو حال شخص مبتور الروح لم يجنِ ثمرةً من وقوفه في حفرة انتظار كهذه؛ جذوره ضاربة كالأشجار في عمق الأرض؛ وثماره حزن وحسرة. واقف هناك في مكانه الذي يشبه حفرة صغيرة..

كان يتكئ إلى عكاز خشبي عريض يسند ذراعه؛ عكاز يبدو أقوى من ساقه الوحيدة المليئة بالخدوش والندوب الغائرة.
ولأنه يدور حول نفسه في ذلك المكان، تحول عكازه إلى فرجار قد رسم حوله حفرة مكتملة القطر.
سألته:
-كم يستغرق المرء من الوقت كي ينسى جزء مبتورًا من جسده؟
تبسم بلؤم وهو يجيل النظر في جسدي المكتمل:
-ربما مقدار الحسرة عليه؛ إنما أجزاء الجسد ليست كلها بذات الأهمية؛ فقلبك حين يتوقف عن مواصلة السير معك لا يشبه خسارة ساق كنت تسير بها.. لا تتساوى أجزاؤك صدقني.
مثلما لا يتساوى فقد جزء من روحك بفقد جزء من جسدك.
ورفع عكازه الثقيل في وجهي وهو يقول:
-خذها مني: عندما تفقد جزء من روحك لا تتخذ عكازا غير نفسك.
الجسد أقل أهمية من الروح؛ لا قيمة له بدون الروح فلا يعدو أن يكون مأدبة للدود فقط.
قلت مؤمّنًا على كلامه:
-ولا بقاء للروح على الأرض دون الجسد؛ سيرفعها الله.. كم استغرقت لتنسى ساقك؟
-لا شيء بجوار وقت تستغرقه كي تنسى صديقًا كان جزءاً أهم من ساق ويد.. ربما إحدى رئتيك؛
وقد تستغرق ما تبقى من عمرك كي تنساه أو تبقى عمرك معلولًا بخسارته..
أحيانا لا نحتاج الوقت؛ بعض الأجزاء هي الحياة؛ تفقدها فتتوقف حياتك في تلك اللحظة.
قلت مواسيًا:
-أيهما أكثر ألمًا لحظة البتر أم أيام الفقد بعدها؟
ربت على صدره قائلا:
-الأيام تكون طويلة وحزينة.. مؤلمة.. لكن الأجزاء التي اضطررنا لبترها لن تعود؛ على الأقل لم تعد جزءا حيا يساندنا؛ صارت مؤلمة كثيرًا.
تلك الأجزاء الغبية لا تعلم كم نتألم؛ غبية كفاية كي لا تشعر كم سببت لنا من وجع وحمى.
فلتذهب إلى الجحيم مع كل ذلك الألم المحرق الذي سببته لنا؛ نستطيع الحياة دونها..
نستطيع أليس كذلك؟
هل سبق وأن رأيت شخصًا بتر ذراعه التي تؤلمه ثم عاد وصاح: هيه لقد غيرت رأيي أعيدوا لي ذراعي؟
لا، لم يسبق أن عادت أجزاؤنا المبتورة.. لأننا نقتلعها من قلوبنا أولًا.
قلت له:
-الإعاقة محزنة وإن لم تعد مؤلمة.
أطلق ضحكة ساخرة للريح العابرة وهو يقول:
-يا صديقي، لا يعيقني أنني بساق واحدة كالأشجار.. فأنا لا جذور لي هنا أو حتى ثمار..
المؤلم هو حال شخص مبتور الروح لم يجنِ ثمرةً من وقوفه في حفرة انتظار كهذه؛ جذوره ضاربة كالأشجار في عمق الأرض؛ وثماره حزن وحسرة.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى