كتابات خاصة

الحكم الاتحادي والاستقرار

محمد صلاح

إن استقراء أحوال الدول التي عرفتها البلاد طوال تاريخها منذ ثلاثة الاف عام إن استقراء أحوال الدول التي عرفتها البلاد طوال تاريخها منذ ثلاثة الاف عام، يشير بكل وضوح بأن استقرار البلد ونظام الحكم فيه كان يقف وراءه الاعتراف بدور فاعل ومشارك لبقية الأجزاء المكونة للدولة، وبدون ذلك فإن استقرار اليمن وبقاءه موحدا، ظل أمرا عسيرا، ومكلفا على الحكام والمحكومين، وكان المجتمع يدفع من أمنه ورخاءه، بل وحياته، ثمنا لنزعات الحكام التسلطية، والجماعات التي يسلطها الحكام على رقاب المجتمع.

فمنذ عهد كرب ايل وتر أول حاكم استطاع إخضاع البلد بأكملها لحكمه في القرن السابع قبل الميلاد، كما تحدثنا النقوش المكتشفة حتى اليوم، فإننا نجد صيغة الحكم فيها اتحادية، تقوم على التكامل والتشارك في تبادل المنافع، وتقاسم الموارد، وكلما اختلت المعادلة بين الأطراف، واهتز نظام الحكم، فإن الصراعات كانت تسفر عن اعادة بناء تحالفات جديدة، تكفل مشاركة الجميع في السلطة، وتضمن حقوقهم في المنافع والخيرات. ومن هنا كانت حياة الاستقرار طويلة الأمد قديما، التي عرفتها بلاد السعيدة ثمرة لصيغة الحكم الاتحادي.
ومنذ أوائل القرن العشرين، وانتهاء الحرب العالمية الأولى التي كان من نتائجها خروج العثمانيين من بلادنا، تعهد الإمام يحيى لليمنيين من بقية مناطق اليمن بترك كل منطقة لأبنائها في ممارسة شؤون الحكم المحلي، لكنه بعد تسلمه الحكم نكث عهده، وخان كل تضحيات القوى اليمنية التي وقفت إلى جانبه، الأمر الذي دفع بأحرار البلاد حينها تذكيره بعهوده ومواثيقه التي قطعها، وظهر ذلك على صفحات جريدة صوت اليمن التي كانت تصدر من عدن أواخر الاربعينات، وبعد ثورة 48 كانت اللامركزية وتحقيقها من الأولويات المراد تنفيذها، ومع أن فشل الثورة حال دون ذلك، إلا أن قادة الأحرار عادوا وطالبوا الإمام أحمد في منتصف الخمسينات بإعادة بناء الدولة اليمنية على أسس اللامركزية، وذلك كما ورد في الوثيقة الصادرة عن الأحرار التي كتبها الزبيري والنعمان تحت عنوان مطالب الشعب، حيث اسهبت الوثيقة في بيان أهمية اللامركزية ومزاياها في تحقيق الاستقرار لليمن. وقد ظلت كتابات الأحرار منذ منتصف الاربعينات تؤكد على رفض المركزية المتهافتة التي جسدها نظام الإمامة، والتي من خلالها عمل على امتصاص خيرات البلد لصالح فئة مريضة طفحت على الجسد اليمني، واصابته بالعلل والأدواء.
كما لم تتوقف المشاريع الوطنية في أي وقت من الأوقات عن مطالبة الحكومات المركزية بعد الثورة عن تطبيق نظام الحكم اللامركزي أو المحلي الواسع الصلاحيات والذي يتيح لأبناء المناطق اليمنية ادارة مناطقهم وفق ما يرونه يحقق احتياجاتها من التنمية والتطور، ومع ذلك لم تكن حكومة المركز على استعداد لقبول دور فاعل وحقيقي للمجتمعات المحلية في ادارة شؤونها.
وفي هذا السياق علينا أن نلتفت إلى أن الصيغة الاتحادية قد طرحت نفسها بقوة مع أول منعطف اهتز به بناء اليمن الواحد بعد تحقيق وحدته في مايو من عام 1990، فبعد الاختلالات التي عصفت بين شركي السلطة خلال العامين اللذين اعقبا تحقيق الوحدة، طرحت الأطراف اليمنية صيغة الحكم الاتحادي مخرجا وسبيلا لأزمة الحكم، وتم التوقيع عليها في وثيقة العهد والاتفاق عام 1993م، غير أنه جرى بعدها ما يطول الحديث عنه، الأمر الذي يؤكد على أن مشكلتنا في اليمن ليست مع الجغرافيا، وانما مع منظومة الحكم التي تسعى لجمع خيوط السلطة وتركيزها في جهاز ومركز واحد، من خلال السيطرة عليه يتم التحكم بالبلد بأكملها.
وحين عجز نظام الحكم بعد عام 94 من تحقيق طموحات الشعب، ومرت السنوات دون أن يصل فيه اليمنيون إلى آمالهم في حياة آمنة مستقرة، تسودها قيم العدالة والمواطنة والمساواة، خرج الشعب من كل فج عميق في ثورة فبراير 2011 يتسابقون على انهاء السلطة التي جثمت على صدر الوطن، وجعلت حكم البلد وخيراته حكرا على فئة ومجموعة قليلة دون بقية اليمنيين، وكان من اهم نتائج ثورة فبراير التي اجمعت كل القوى اليمنية عليه هو في اعادة صياغة شكل الدولة على أسس اتحادية، وبسبب ذلك اندفع اصحاب الأوهام المتخلفة والمتلهفة للاستحواذ على السلطة والثروة لشن الحروب، لرفض الحكم الاتحادي، لأنه يقوض مشاريعهم الأنانية ورغباتهم الطامعة في الاستئثار واصطفاء البلد لهم من دون الناس.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى