كتابات خاصة

التدين العقلاني

د. عبدالله القيسي

في كتابه “حكمة القلق” يقسم عالم الأديان واللاهوت آلن واتس حالة المؤمنين إلى قسمين: قسم يسميه “الإيمان” وآخر يسميه “الاعتقاد” وهو تقسيم ينطبق على حالة المؤمنين في كل الأديان، وإن كان النصب الأكبر في كل دين هو لأصحاب “الاعتقاد” بحسب المواصفات الآتية لهم.

تحدثت في مقال سابق عن ظاهرة “الإلحاد الجديد” أو بتسمية أدق “الإلحاد الدوغمائي”، وفي هذا المقال أقف مع ظاهرة في الضفة الأخرى، هي ظاهرة ليست بالجديدة، بل هي الأظهر في كل مجمعات المتدينين، إنها ظاهرة “التدين الدوغمائي”، مقارناً بينها وبين ظاهرة أخرى هي أقل ظهوراً وهي “التدين العقلاني”.

في كتابه “حكمة القلق” يقسم عالم الأديان واللاهوت آلن واتس حالة المؤمنين إلى قسمين: قسم يسميه “الإيمان” وآخر يسميه “الاعتقاد” وهو تقسيم ينطبق على حالة المؤمنين في كل الأديان، وإن كان النصب الأكبر في كل دين هو لأصحاب “الاعتقاد” بحسب المواصفات الآتية لهم.
يعرِّف “المعتتقِد” بأنه من يرى أن العالم في شكل ما يعتقد، أما “المؤمن” فهو من يرى أن عليه معرفة تدريجياً، وبالتالي فإن كل عقيدة يتبناها هي مرتبة من مراتب الوصول للحقيقة، ولأنه لا يرى نفسه واصلاً للغاية أبداً فهو على استعداد للمسير صوبها دائماً بمرونة عالية.
وفي عبارة وجيزة ل واتس في الفرق بينهما يقول: الاعتقاد يقبض علينا، بينما الإيمان يحررنا.. المؤمن يعيش الحق والمعتقد يعيش عقيدته.
الإيمان يدرك أن الحقيقة قلقة وغير مستقرة لأن الواقع متبدل ومتطور، بينما الاعتقاد يحاول أن يمنح الحقيقة صفة الاستقرار، وأنها متطابقة مع الواقع.
صاحب الاعتقاد يتمسك باعتقاده تمسكاً صلباً، بينما المؤمن يتمسك تمسكاً صلباً بالحقيقة، باعتبار أنه غير واثق من مطابقة معتقده للحقيقة، ولذا يوطن نفسه دائماً لاختبار معتقده وتمحيصه من دون أي خوف من تغييره.
هذا التفريق الذي يتحدث عنه واتس كنت قد كتبت عنه منذ مدة تحت مسمى “الإيمان” و”اليقين” و”المؤمن والموقن”، ووجدت كثيرا من القرائن ترفد ذلك.
كانت بداية الفكرة وأنا أقرأ في كتاب مصطفى محمود “رحلتي من الشك إلى الإيمان” وحينها سألت نفسي لماذا لم يكن العنوان “رحلتي من الشك إلى اليقين” وبعدها بعدها في تتبع آيات الإيمان واليقين، فوجدت غالب الآيات تدعو للإيمان، وقليلة جداً تلك التي تتحدث عن اليقين، ومن سياقها يمكن أن نجعلها بذات المعنى للإيمان.. و”الإيمان” هو اللفظ المتكرر في القرآن بدلاً عما اشتهر في كتب التراث الإسلامي بـ “العقيدة”.
 
وأما صفة المؤمنين في تحري الحقيقة وطلبها المستمر دون الادعاء بامتلاكها أو الوصول النهائي لها، فهو ما كنت أتأمله وأنا أقرأ يومياً في سورة الفاتحة.. فنحن نظل نكرر “إهدنا الصراط المستقيم” وهو دعاء يبطن بداخله عدم ادعاء الحقيقة وامتلاكها إذ من يظن ذلك يوما ما فإنه ليس بحاجة لأن يطلب الهداية للصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو أقرب طريق بين الإنسان والحقيقة، والدعاء يطلب منا أن نبقى في الطريق المستقيم ولا نحيد عنه، في الطريق حقائق كثيرة لكنه يبقى طريقاً إلى الحقيقة الكاملة، هناك بعد الموت، أما من يتوقف في الطريق ظاناً أنه وصل فما عرف الحقيقة.. فالمؤمن باختصار طالب حقيقة لا صاحب حقيقة.
وكل ما جاءت به الأديان من تعاليم هي معالم وشعائر في الطريق لنهتدي بها فلا نضيع ولكن تلك المعالم والشعائر ليست هي المقصد النهائي، لأن المقصد النهائي هي تلك الحقيقة التي في نهاية الطريق.
 
إن ذلك التدين الذي لا يسمح لصاحبه بعرض معتقداته على الواقع هو نوع من عبادة الأوثان كما يسميها أريك فروم في كتابه “علم النفس والدين”.
ومما أشار له واتس في التفريق بين حالتي الإيمان والاعتقاد وهو ما نلاحظه هذه الأيام أن المعتقدين يحرمون الاستقرار لأنهم ينشدونه، يقلقهم كل ما يهدد الثبات، يخوفهم أي تغيير، يعيشون الهم والاضطراب مع كل سؤال يهز ثابتهم ومعتقدهم، ومع كل واقع يتغير ويتبدل بما يخالف معتقدهم، أما المؤمنين فلا ينشدون الاستقرار للحقيقة، ولا يشعر بأي خطر تجاه ما يؤمن به، لذا يطمئن..
أستطيع في نهاية هذا المقال أن أقول أن العقائد صنفان: دوغمائية وغير دوغمائية، ولو أردت تشبيه كل واحد منها لشبهت صلابة الأول كالحجر وصلابة الثاني كالماء، الحجر ينكسر إذا تعرض للضرب، والماء يبحث عن طريق آخر باستمرار دون توقف عن السير.
كل ما مر كان حديثاً عن الموقف المعرفي، أما الموقف الأخلاقي فلا بد من الثبات عليه حتى نحفظ وجودنا كبشر، وحتى نستطيع أن ننطلق إلى الموقف المعرفي بأمان.
في مقال قادم سأتحدث عن صفات الفريقين وتأثيرهما على حياتنا بشكل أوسع.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى